قراءة: حنان بنت عبدالعزيز آل سيف -بنت الأعشى-
الباحث الرئيسي ورئيس الفريق العلمي أ. د. مرزوق بن صنيتان بن تنباك
الوسطية صفة أمة محمد صلى الله عليه وسلم وهي خلق رفيع، وأدب دمث جميل، بل هي خلق من أخلاق الفطرة السليمة النقية الخالصة من الشوائب والبدع والانحرافات، وقد خص الله تعالى الأمة المحمدية بهذه الخصلة الكريمة فقال تعالى في محكم التنزيل، وعزيز البيان الإلهى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وهي خصلة كريمة عزيزة نابعة من أصول أخلاقية عريقة وشيجة أصيلة، بل هي من صفات كرماء هذه الأمة وأفذاذهم وخيارهم، والاعتدال في كل شيء أمر محبب ومرغب فيه.
جاء في استهلالة الكتاب الميمونة الطالع كلمة جميلة فحواها: (الوسطية فرع أصيل من شجرة الأخلاق الباسقة التي تظل بظلالها الناس في كل زمان ومكان، وهي من مكارم الأخلاق، بل هي ميزان الأخلاق الفاضلة، والعادات الحسنة التي تعارف الناس على ممارستها، فالمكارم الحقة ماكانت معتدلة من غير إفراط ولا تفريط وهي بذلك تقترب من الكمال المنشود. فالوسطية منهج عادل تكسب صاحبها التوازن في جميع الأخلاق الفاضلة وتؤدي إلى نقاء النفس وتخلصها من الانحراف. وفي تطبيقها صلاح الناس في الدنيا والآخرة لما تندرج عليه من الاستقامة والفضيلة والأصالة والخير، فهي مفتاح لكل خير، ومغلاق لكل شر). والوسطية منهج بين الإفراط والتفريط فيه الاعتدال والأفضلية والخيرية، كما قال الشاعر الأول:
عليك بأوسط الأمور فإنها
نجاة ولا تركب ذلولاً ولا صعبا
وقال الشاعر الآخر:
حب التناهي غلط
خير الأمور الوسط
وعرف ابن القيم في كتابه الرائد «الفوائد» الوسطية بقوله: (وضابط هذا كله العدل، وهو الأخذ بالوسط الموضوع بين الإفراط والتفريط، وعليه بناء مصالح الدنيا والآخرة). ويعني بذلك الخيرية التي تقتضي العمل بما فيه صلاح الناس في الدنيا والآخرة دون غلو وتعصب وتقليد أعمى، ودون تساهل وتفريط مبني على الأماني، وهي بهذا خلق محمود مرغوب فيه، تستقيم عليه أمور الناس، وتصلح به دنياهم وآخرتهم.
ويشير الكتاب إلى أن الإنسان بطبيعته يسعى إلى الكمال، ويتطلع إلى السمو ولكنه ضعيف يعتريه النقص، ومع ذلك فهو لا يكل يطلب المعالي، ويجتهد في الوصول إلى القمة.
إذا كنت تبغي العيش فإبغ توسطاً
فعند التناهي يقصر المتطاول
توقى البدور النقص وهي أهلة
ويدركها النقصان وهي كوامل
والسؤال الذي يطرح نفسه بنفسه ما السبيل إلى العدل؟ وما الطريقة المثلى المؤدية إليه، ويجيب الكتاب على هذا السؤال الجوهري والذي يضرب في الصميم بما نصه:
(والاعتدال طريق للعدل الذي به تستقر الحياة، وتعمر الأرض، ويسعد الإنسان، والعدل كان منذ قديم الزمان سبباً في طول عمر الأمم ورفعتها ومجدها، بعكس الظلم الذي هو مفتاح الفساد والانهيار ولا يكون الإنسان رضي النفس مطمئن البال إلا إذا أشعر نفسه بتوطينها على قبول العدل، وقد قال بعض العلماء: إن العدل مأخوذ من الاعتدال، فما جازو الاعتدال فهو خروج عن العدل، ولست تجد فساداً إلا وسببه الخروج من حال العدل إلى ما ليس بعدل من حالتي الزيادة والنقصان. وبالاعتدال يتبوأ الإنسان مكانه مرموقة في المجتمع، فلا يكون محتقراً ذليلاً يعيش مع الرعاع والغوغاء، ينظر إليه الناس نظرة ازدراء وامتهان، ولا متكبراً متجبراً يعيش حياة الطغاة والعتاة، وينظر إليه الناس نظرة خوف ورهبة، وقد صدق من وصف علاقة المرء بمن حوله وذلك حين قال: أحسن الأحوال حال يغبطك بها من دونك، ولا يحقرك معها من فوقك» وصح أن: أكثر الخير في الأوساط» والاعتدال في أمور الحياة كلها يفرز مظهر الواقعية لكل ما يجري، فتقاس الأمور بمقياس حقيقي،وتفسر الأحداث بمنأى عن التحيز والضبابية).
والوسطية منهج يشمل كل خلق كريم، وخلق فاضل، وخلق جميل.
والوسطية تعني الاستقرار والهناء.
والوسطية تعني الرفعة والخيرية.
والوسطية تعني النقاء والصفاء.
ويشرح ابن القيم عليه رحمه الله في كتابه «الفوائد» هذه المعاني فيقول: (للأخلاق حد متى جاوزته صارت عدواناً، ومتى قصرت عنه صارت نقصاً ومهانة، فللغضب حد هو الشجاعة المحمودة، والأنفة من الرذائل والنقائص، وهذا كمالة، فإذا جاوز حده تعدى صاحبه وجار، وإن نقص عنه جبن ولم يأنف من الرذائل، وللحرص حد، وهو الكفاية في أمور الدنيا، وحصول البلاغ منها، فمتى نقص من ذلك كان مهانة وإضاعة، ومتى زاد عليه كان شرهاً، ورغبة فيما لا تصمد الرغبة فيه، وللشجاعة حد إذا جاوزته صارت تهوراً، ومتى نقصت عنه صارت جبناً وخوراً، وحدها الإقدام في مواضع الإقدام، والإحجام في مواضع الإحجام، وضابط هذا كله العدل، وهو الأخذ بالوسط الموضوع بين طرفي الإفراط والتفريط، وعليه بناء مصالح الدنيا والآخرة، بل لا تقوم مصلحة البدن إلا به، فإنه متى خرج بعض أخلاطه عن العدل وجاوزه، أو نقص عنه، ذهب عن صحته وقوته بحسب ذلك، وكذلك الأفعال الطبيعية، كالنوم والسهر والأكل والشرب وغير ذلك إذا كانت وسطاً بين الطرفين المذمومين كانت عدلاً وإن انحرفت، إلى أحدهما كانت نقصاً، وأثمرت نقصاً).
ويطرح الكتاب جانباً مهماً وهو أن الاعتدال سمة من سمات الفطرة البشرية السوية، وهو جبلة أصلية جبلت عليها النفس البشرية في أس تركيبها، وأطر تكوينها، والإنسان إذا عاش في مجتمع متوازن معتدل أحس بالطمأنينة والأمن والأمان، ومتى ما انحرف المجتمع عن هذه الخاصية عمت الفوضي وطمت، وجنح أهله إلى العنف والفوضى والفساد الفكري، والتشتت العقلي، والخطئية الأولى التي ارتكبها ابن آدم الأول كما جاء على لسان الكتاب هي الخروج عن المألوف المعتدل في معاملة الآخرين، والإسراف في السعي في الأرض بغير حق، وما أروع الوصف القرآني المبين لهذا التجاوز الفطري في الفساد والضرر، حيث ينحسر الأمن، ويهيمن الخوف والهلع والفزع، وتتحول الحياة بهذا إلى جحيم لا يطاق، ونار شديدة الحرارة، يقول جل جلاله في سورة المائدة: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ * لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لَأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ * إِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاء الظَّالِمِينَ * فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ * فَبَعَثَ اللّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ .
وفي الكتاب تعليق هادف ناصح وضاء على هذه الآية الكريمة ونصه: (إن الفطرة البشرية تطمح للعمران والبناء، وتتطلع لحياة مثالية لا تشوبها منغصات العنف التي تجلب الخوف والهلع، وتؤدي إلى خلخلة البناء، وبالتالي فإن الغلو والطغيان أمر طارئ، وعارض يبرز نتيجة التراكمات في الانحراف ومعاندة الفطرة لأن الأصل الهداية والاتزان، والطبيعة البشرية مفطورة على حب السلام وإيثار الأمن، وتجنب المشكلات والمنغصات، ولا يحدث انحراف إلا وارءه عامل طارئ من عوامل استفزاز الفطرة وتهييجها يؤدي إلى خروجها عن المألوف، وانحرافها عن طورها الطبيعي في الهدوء وحب السلامة).
ويقول الشيخ محمد الغزالي في كتابه خلق المسلم عن نوازع النفس البشرية: (وهذه الطوارئ المفسدة للفطرة قد تتكون من رواسب القرون الماضية، أو من تقاليد البيئات الساقطة، أو من كليهما معاً، وهي شديدة الخطر فيما تجره على الفطرة البشرية من علل، وجهاد المصلحين الحقيقي يقوم على كفاحها وكسر حدتها، وإنقاذ الفطرة من غوائلها، حتى تعود إلى صفائها الأصيل، وتؤدي وظيفتها الحقة).
وهنا لا بد من توعية اجتماعية هادفة تغرس مبدأ الاعتدال والتوازن في نفوس الأجيال الناشئة والصاعدة، وذلك من أجل زرع التوافق والوئام في ذات المجتمع، وطرح التعصب والتصلب وعدم التنازل عن حقوق الآخرين، وتشجيع خلق كظم الغيظ، والدفع بالحسنى، امتثالاً لقوله تعالى: وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ فتشيع بهذا المحبة، وتنطفىء العداوة. ولكن ماذا عن أيام العرب الأولى والاعتدال؟ والجواب أنه (قد ظهر في العرب من يدعو إلى الاعتدال وإلى كل خلق فاضل، وخصلة حميدة، يترتب عليها الخير والصلاح، كزيد بن عمرو بن نفيل، وأمية بن الصلت، والأحنف بن قيس وغيرهم كثير.
يقول الشاعر الجاهلي قيس بن الخطيم:
أمرٌّ على الباغي ويغلظ جانبي
وذو القصد أحلو لي له وألينُ
وكان عبدالمطلب بن هاشم من أعقل زعماء العرب، ونهج نهجاً وسطاً في تعامله مع القبائل، وحتى مع أعدائه، وكان يقدر الأمور، ويختار الأيسر، ويتضح ذلك في موقفه من غزو أبرهة لمكة المكرمة، فقد استقر رأيه بعد تفكير وتقدير على خروج أهل مكة إلى الشعاب، وعدم مواجهة جيش أبرهة اللجب، فقد رأي في المواجهة فناء لقومه فآثر سلامة الناس وخروجهم وترك أمر البيت لرب البيت، فهو وحده القادر على حمايته في مثل هذه المواقف).
ويطرح الكتاب أمثلة لأولئك الرجال الذين أحبوا التوسط في الأمور، ووقفوا في وجه الغلو والانحراف، وكانت دعواتهم صريحة وواضحة للتوسط والاعتدال في الأمور الخاصة والعامة بل في شئون الحياة كلها، وكان من هؤلاء الرجال زيد بن عمرو بن نفيل الذي رفض عبادة الأصنام، وعافت نفسه الأبيّة ما ذبح على النصب، وهو القائل: (اللهم أني أشهد أني على دين إبراهيم).
ومما ترنم به لسانه شعراً، ونضحت به قريحته الشعرية قوله:
أرباً واحداً أم ألف ربِّ
أدينُ إذا تقاسمت الأمور
عزلت اللات والعربى جميعاً
كذلك يفعل الجلد الصبورُ
فلا عربي أدين ولا ابنتيها
ولا صنمي بني عمرو أزورُ
ولكن أعبدُ الرحمن ربي
ليغفر ذنبي الربُ الغفور
ومن هؤلاء الرجال الذين أحبوا التوسط والاعتدال مالك بن حزيم الهمداني الذي أحبَّ تيار الوسطية، وتمثله منهجاً له في حياته، حتى دارة يحبها أن تكون وسط قومه ليعيش بينهم يحس بما يحسون ولا يحبها عند الثنايا حيث الهواء العليل والمنظر الحسن، فيتمثل هذا المنهج المعتدل في شعره فيقول:
إذا حلَّ قومي كنت أوسط دارهم
ولا ابتغي عند الثنية مطلعا
ومن خلال ما سبق نجد أن هناك تيارا عربيا يدعو إلى التوسط قبل الإسلام، ولكنه ووجه بتيار أقوى من الغلو والانحراف، وللكتاب كلمة جامعة حول هذا الجانب نصها: (فبينما كان أصحاب الاعتدال فرادي ضعفاء لا تجمعهم قوة، ولا توحدهم دولة، نجد أصحاب التيار الآخر أقوياء لهم السلطة والجاه، وما ذلك إلا لغلبة الهوي في ذلك الوقت، وتحكم العصبية القبلية، مما شكل عقبة كؤوداً في وجه الدعوات الخافتة للاعتدال والوسطية، وعدم الغلو والانحراف).