في حين أن السياسة الخارجية للولايات المتحدة لم تكن في فترة ما بين الحربين (الأولى والثانية) معنية بشكل مركزي بالشرق الأوسط، فقد أصبحت هذه المنطقة من العالم ذات أهمية حاسمة بالنسبة لأمريكا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. بعد هذه المرحلة من التاريخ، تسلَّمت الولايات المتحدة زمام الأمور من بريطانيا كقوة عظمى رائدة في العالم. لكن في الوقت نفسه، بدأت الحرب الباردة (1947-1991)، مما يعني أن الولايات المتحدة أولت اهتمامًا بالعديد من مناطق العالم، ربما لا شيء أكثر أهمية من الشرق الأوسط. تناقش هذه المقالة طبيعة السياسة الخارجية للولايات المتحدة في الشرق الأوسط بعد نهاية الحرب العالمية الثانية. سيقال إن هذه السياسة كانت، وإلى حد ما، تتسم باهتمامين رئيسيين. الأول هو منع انتشار الشيوعية من الاتحاد السوفياتي إلى أجزاء أخرى من العالم. والثاني هو فرض قدر من السيطرة على احتياطيات النفط الهائلة الموجودة في الشرق الأوسط. لقد خفت أهمية أول هذه المخاوف، على الأقل مؤقتًا. هذا هو الجانب المتغير للسياسة الخارجية الأمريكية. يبقى الشاغل الثاني حاسمًا ويشكل الجانب الثابت أو المستمر لمصالح السياسة الخارجية الأمريكية في الشرق الأوسط.
فقط كلمة واحدة يجب أن تُقال عن فترة تاريخ ما قبل اهتمام الولايات المتحدة بالشرق الأوسط. في عام 1928، وقعت الولايات المتحدة «اتفاقية الخط الأحمر»، جنباً إلى جنب مع العديد من الدول الغربية الأخرى، من أجل تقاسم وممارسة قدر من السيطرة على احتياطيات النفط في الشرق الأوسط بعد سقوط العثمانيين. لأن الموقعين اتفقوا على أنهم لن يطوروا إلا حقول النفط في المنطقة التي يحكمها الاتفاق. وبهذا المعنى، ساعدت الاتفاقية في الحفاظ على استقرار الأسعار وتوزيع الأرباح بشكل عادل. ثم في عام 1944، حاولت الولايات المتحدة وبريطانيا إبرام اتفاقية طويلة الأمد لإدارة تدفق النفط في المنطقة. ومع ذلك، في مواجهة معارضة شبه إجماعية من صناعة البترول، فشلت هذه المحاولة.
حدثان وقعا بشكل أو بآخر مباشرة بعد الحرب العالمية الثانية أديا إلى تلوين السياسة الخارجية للولايات المتحدة في المنطقة. الأول كان الإطاحة برئيس الوزراء الإيراني، محمد مصدق -ذو شعبية كبيرة في إيران- في عام 1953، والذي قد اقترح تأميم صناعة النفط الإيرانية، وهو ما يعني استخدام موارد البلاد لمساعدة شعبها بدلاً من زيادة إثراء شركات الطاقة عبر الوطنية في بريطانيا والولايات المتحدة. ناشدت بريطانيا الولايات المتحدة للمساعدة في التعامل مع هذا الاتجاه «الصادم للأجندات الغربية» في طهران، واضطرت الولايات المتحدة إلى تقديم المساعدة في عملية استخباراتية، تُعرف في الأدبيات بعملية «أجاكس»، نتج عنها إزاحة مصدق عن المشهد السياسي. هذا العمل، بحسب ما يذكر محمد منصور في مقالته، السياسة الخارجية الأمريكية في الشرق الأوسط منذ القرن التاسع عشر، عزَّز النفوذ الأمريكي في إيران؛ فمن خلال المنظور السياسي والإستراتيجي، ضمنت أميركا حليف موثوق به في إيران (الشاه محمد رضا بهلوي) وترسيخ وجودها بحكم موقع إيران القريب من الحدود السوفيتية، ومن الناحية الاقتصادية، المشاركة في النفط الإيراني بعد نهاية الاحتكار البريطاني على هذا المورد.
وكان الحدث الثاني هو إنشاء الكيان الصهيوني في عام 1948. لم يكن لدى الولايات المتحدة اهتمام كبير نسبيًا بهذا التطور في البداية، لكنها سرعان ما أدركت أن إسرائيل ستكون شريكًا لا يقدَّر بثمن في الجهود المبذولة لتحقيق أقصى قدر من الهيمنة السياسية من جهة، وللسيطرة على احتياطيات الطاقة الوفيرة في المنطقة من جهة أخرى. بعد حرب الأيام الستة عام 1967، عملت الولايات المتحدة باستمرار لحماية إسرائيل، وبالتالي الحفاظ على سيطرتها على الشرق الأوسط عن طريق المبادرات والمفاوضات التي أشرفت عليها.
كل رئيس أمريكي حديث لديه مبادرة أو اقتراح للسياسة الخارجية سميت باسمه. من خلال النظر في اثنتين من هذه المبادرات، يمكن تقديم بعض المعلومات الأساسية القيمة فيما يتعلق بالتاريخ الحديث للسياسة الخارجية للولايات المتحدة في الشرق الأوسط. تمت صياغة ما يُسمى بـ«عقيدة أيزنهاور» في عام 1957، تمت صياغتها بشكل إستراتيجي ليبدو كما لو كان مجرد عرض مساعدة لدول الشرق الأوسط التي قد تشعر بأنها مهددة بالخطر المتمثل في العدوان السوفيتي. وتعهدت العقيدة بأنه يمكن دعوة القوات الأمريكية «لتأمين وحماية السلامة الإقليمية والاستقلال السياسي لهذه الدول، وطلب مثل هذه المساعدة ضد العدوان المسلح العلني من أي دولة تسيطر عليها الشيوعية الدولية.»
(Eisenhower Doctrine, Office of the Historian)
في الواقع، بالطبع، لم يكن هذا بأي حال من الأحوال موقفًا دفاعيًا كانت الولايات المتحدة تحافظ عليه. كان رد فعل على تنامي المشاعر المعادية للغرب في المنطقة، خاصة في مصر وسوريا في أعقاب أزمة السويس عام 1956. كانت هذه الأزمة صراعًا بين القوى المحلية والاستعمارية للفصل في الأمور المتعلقة ببناء قناة السويس والسيطرة عليها، والتي كانت تساهم بشكل مركزي في الجغرافيا السياسية والتجارة في ذلك الوقت.
بعد بضع سنوات، وتحديدًا في عام 1980، صاغت الولايات المتحدة ما يسمى بـ «عقيدة كارتر»، والتي أشارت بشكل واضح إلى أن الولايات المتحدة ستفرض سيطرتها بالقوة على منطقة تبعد آلاف الأميال عن شواطئها ولم تهدد الشعب الأمريكي بأي شكل من الأشكال. صاغ مستشار الأمن القومي للرئيس كارتر، زبغنيو بريجينسكي، العقيدة على النحو التالي:
«ستُعتبر محاولة أي قوة خارجية للسيطرة على منطقة الخليج اعتداء على المصالح الحيوية للولايات المتحدة الأمريكية، وسيتم صد مثل هذا الهجوم بأي وسيلة ضرورية، بما في ذلك القوة العسكرية».
(Carter Doctrine, Office of the Historian)
لم يتم تقديم أي تفسير حول سبب افتقار مثل هذه «القوة الخارجية» إلى المكانة في المنطقة التي تتمتع بها الولايات المتحدة، لسبب ما. ومع ذلك ، فقد أوضحت عقيدة كارتر بإيجاز الموقف الذي توقعته ودافعت عنه الولايات المتحدة في المنطقة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية حتى الوقت الحاضر.
من الأمثلة البارزة للسياسة الخارجية الأمريكية في الشرق الأوسط أثناء الحرب الباردة، هو رد أميركا على الحرب الإيرانية العراقية في الثمانينيات. كانت هذه الحرب نتيجة غليان التوترات التي كانت قائمة بين طهران وبغداد لسنوات عديدة والتي أصبحت ضرورة في أجندات قيادات الثورة الإيرانية الصاعدة آنذاك. من المعروف أن الولايات المتحدة دعمت العراق بنشاط خلال هذه الحرب، ومع ذلك، ما هو أقل شهرة هو أن الولايات المتحدة دعمت إيران أيضًا خلال هذا الصراع. حدث هذا عندما أصبح على الأرجح أن إيران ستربح الحرب. لم يكن تفسير هذا التناقض هو النقطة الواضحة فقط وهي أن الولايات المتحدة تريد أن تنحاز إلى المنتصر في الصراع. النقطة الأعمق هي أن الولايات المتحدة أرادت تجنب وضع يهزم فيه أي من الدولتين الآخر، وبالتالي، يصبح قوياً لدرجة أنه يمكن أن يحبط المصالح الأمريكية في المنطقة (نشوة الانتصار أحيانًا خطر يهدد المنتصر إذا لم يتم السيطرة عليها). يدعم هذه الحجة، ما أشار إليه راي تاكيه، في مقالته الحرب العراقية الإيرانية: إعادة التقييم، بأن النتيجة المفضلة للإدارة الأمريكية في عهد الرئيس ريغان بخصوص الحرب، كانت إبقاء حالة الجمود بين الطرفين.
بالقرب من نهاية الحرب الباردة، انخرطت الولايات المتحدة أيضًا في «حرب بالوكالة» واسعة النطاق مع الاتحاد السوفيتي في أفغانستان بعد غزو موسكو للبلاد في بداية عام 1979. وقد ميّز هذا الصراع والحروب التي بدأتها الولايات المتحدة في كوريا وفيتنام، النفوذ الأمريكي في المنطقة خلال فترة الحرب الباردة. في كل من كوريا وفيتنام، زعمت الولايات المتحدة أنها تعمل على حماية «العالم الحر» من المبادرات الغير الأخلاقية والعنيفة للاتحاد السوفيتي الشيوعي. وكما أظهر النشاط الأمريكي في الشرق الأوسط، لم يكن هذا أكثر من مجرد محاولة لتأمين غطاء أيديولوجي للأنشطة التي كانت، في الواقع، مصممة لحماية وإثراء مصالح الشركات الأمريكية في جميع أنحاء العالم.
بعد نهاية الحرب الباردة، في أواخر الثمانينيات وأوائل التسعينيات، تغيرت النظرة الأمريكية الرسمية لسياستها الخارجية بشكل كبير. لم يعد من الممكن المجادلة بأن المبادرات الدبلوماسية والعسكرية للولايات المتحدة في الشرق الأوسط كانت تهدف إلى حماية العالم من الشيوعية. إذا أراد المرء أن يفهم الطبيعة الحقيقية للسياسة الخارجية للولايات المتحدة في المنطقة، فمن المفيد أن ننظر إلى ما فعلته الولايات المتحدة بعد نهاية الحرب الباردة. الجواب بالطبع، هو أن الولايات المتحدة غزت أفغانستان في عام 2001 ناهيك عن غزو العراق في عام 2003. ما يوحي به هذا هو أن الأسباب الرسمية للتدخل العسكري الأمريكي في الشرق الأوسط لم تكن في الحقيقة تتعلق بالشيوعية فقط، بل كانت تتعلق بشدة بإبقاء الهيمنة السياسية والاقتصادية على المنطقة، لأنها تعتبر نافذة لمراقبة تحركات أي قوة صاعدة في الشرق الأقصى، فضلاً عن تأثيرها القوي على التجارة العالمية بحكم مواردها الطبيعية الوفيرة. باختصار، جادلت هذه المقالة بأنه كان هناك استمرارية وتغيير في السياسة الخارجية للولايات المتحدة في الشرق الأوسط. الاستمرارية تم توفيرها من خلال الاهتمام الأمريكي الدائم، حسب التصريحات الرسمية، بمنع انتشار الشيوعية. تتوافق بعض الإجراءات الأمريكية في الشرق الأوسط مع هذا النموذج. أحد الأمثلة على ذلك هو الحرب بالوكالة التي دارت مع الاتحاد السوفيتي في أفغانستان في الثمانينيات. ومع ذلك، فإن الإجراءات الأخرى التي تقوم بها الولايات المتحدة في المنطقة لا تتناسب مع هذا النموذج. ومن الأمثلة على ذلك غزو واحتلال أفغانستان والعراق في عامي 2001 و2003 على التوالي. وبالتالي، فإن الجزء المتعلق بالاستمرارية في السياسة الخارجية للولايات المتحدة في الشرق الأوسط بعد الحرب العالمية الثانية، قد استنفد بشكل أساسي بسبب الأنشطة الأمريكية في المنطقة قبل عام 1990. وخلال هذا الوقت، كان من الممكن للولايات المتحدة إخفاء أنشطتها في المنطقة كرد فعل للتهديد الشيوعي. لكن بعد هذا الوقت، لم يعد ممكناً لهذا الغطاء الأيديولوجي أن يفسر العدوان الأمريكي في الشرق الأوسط. بعد هذا الوقت، تم الكشف عن حقيقة السياسة الخارجية للولايات المتحدة في المنطقة. كانت هذه السياسة، ولا تزال، مكرسة بشكل مباشر في محاولة للتحكم في من يمكنه الوصول، والأهم من ذلك، من لا يستطيع الوصول إلى احتياطيات النفط فالمنطقة. محاولات عرقلة قرارات الأعضاء المؤثرين في منظمة أوبك بشأن النفط، يعزِّز ما سبق استنتاجه.
لا يزال الشرق الأوسط، بالتحديد منطقة الخليج العربي، منطقة حيوية ذات أهمية في الفكر الإستراتيجي الأمريكي، حتى وإن أظهرت بعض التوجهات الأمريكية عكس ذلك.
** **
- تركي بن فيحان الشيباني