عبدالرحمن الحبيب
السبب الرئيسي الذي يدفع الموظفين لعدم رغبتهم في العودة بدوام كامل إلى المكتب بعد كورونا هو أنهم لا يحبون التنقل. فجأة اكتشف ملايين الموظفين أنهم ليسوا مضطرين للتنقل لأداء عملهم بعدما أظهر ذلك التحول إلى العمل المختلط والعمل عن بعد أثناء جائحة كورونا؛ فكثيرون وجدوا أن العمل من المنزل بدا طبيعيًّا ومألوفًا. السبب أن العمل في نفس المكان الذي ننام فيه متأصل بعمق في أدمغتنا، فعبر التاريخ، كان العمل من المنزل هو القاعدة. على سبيل المثال، عمل الصيادون في المجتمعات البدائية في منازلهم في إعداد الطعام وصنع الملابس. كما كان ذلك شائعًا أيضًا في العصور الوسطى، حيث كان الناس من الطبقة العاملة ينقلون حرفهم من المنزل..
هذا ما جاء في كتاب غالوب الجديد «صدمة ثقافية» (Culture Shock) حول ما اعتبره أكبر تحدٍّ لقيادة الأعمال في عصرنا، فقد تسببت جائحة كورونا في صحوة صدمت العالم: تغيير هيكلي في كيف وأين يعمل الناس ويعيشون؟ شيء واحد نعرفه الآن على وجه اليقين: لا شيء يعود إلى طبيعته. يكمن الخطر المباشر في أن معظم الموظفين سيعملون الآن كمستقلين أو عمال مؤقتين أكثر من كونهم موظفين مخلصين وملتزمين بالمؤسسة. يزداد الخطر في إنشاء ثقافة أعضاء الفريق الواحد الملتزمين والعلاقات القوية في العمل، والخشية من تدهور العلاقات مع العملاء..
أساسًا، التنقل هو ظاهرة جديدة نسبيًّا. جلبت الثورة الصناعية معها أعمال المصانع الماهرة التي تطلبت من الناس الانتقال لمسافة طويلة إلى مصنع أو مطحنة والعمل في الموقع. ومع ذلك، حتى خلال القرن التاسع عشر وبعض القرن العشرين، استمر الكثير من الناس في العمل من المنزل لتقديم خدمات مثل غسيل الملابس والطعام لعمال المصانع. لم يظهر مكتب العصر الحديث حتى القرن العشرين، مدفوعًا بالتطورات في التقنية مثل الكهرباء والهواتف ووسائل النقل العام.
أصبح الانتقال إلى العمل في النهاية جزءًا أساسيًّا من ثقافة العمل، بسبب جانب كئيب من الطبيعة البشرية: مفهوم «العجز المكتسب»، والذي ينتج عن قبول الناس لقاعدة معينة ثم يعتقدون أنهم لا يستطيعون تغييرها.. أو «غريزة القطيع» كما يذكر الكتاب، فنحن مخلوقات اجتماعية نحب عمومًا أن نكون غالبًا مع أشخاص آخرين.. في أعماق أدمغتنا، الانتقال لنكون معًا هو أمر طبيعي. نقوم بذلك للعبادة والمناسبات الرياضية والحفلات الموسيقية وحفلات العشاء وما شابه..
هذا السلوك الطبيعي لنكون معًا - والتنقل الذي يتطلبه - أنتج مكاسب، إذ غالبًا ما تحدث مشاركة الأفكار وبناء العلاقات وحل المشكلات وإجراء محادثات إبداعية عفوية بشكل أفضل على المستوى الشخصي وليس عن بُعد.
لكن، هل لا يزال التنقل كل يوم منطقيًّا؟ وجدت استطلاعات غالوب أنه من بين الوظائف التي تتطلب القدرة على العمل عن بُعد، فإن العمل يومين إلى ثلاثة أيام تعمل على تحسين تفاعل الموظفين. ولكن في مكان العمل الحالي خمسة أيام في المكتب أظهرت أدنى مستويات المشاركة.
ليس من الصعب تخيل السبب.. خطوط لا نهاية لها من السيارات البطيئة الحركة مما يجعل التنقل يبدو وكأنه أحد أسوأ الأفكار البشرية. ابتكرنا وسائل ترفيه ووجبات سريعة لجعل التنقل أكثر تحملًا. اخترعنا صناعة البرامج الحوارية الإذاعية، والكتب الصوتية، والبودكاست في الصباح وفي وقت متأخر بعد الظهر لنستمع إليها في السيارة.
لكن التنقل أصبح أكثر إرهاقًا، والازدحام المروري يزاد سنة تلو أخرى في جميع مدن العالم تقريبًا. أفاد مكتب الإحصاء الأمريكي أن متوسط التنقل في اتجاه واحد إلى العمل كان 27.6 دقيقة عام 2019؛ وهذا يمثل زيادة بنسبة 10 % عن عام 2006. أي 230 ساعة في السنة من وإلى العمل - ما يعادل 29 يوم عمل من ثماني ساعات تقريبًا.
لا يُدرج أصحاب العمل عادةً الوقت الذي يقضيه الموظفون في حركة المرور أو في القطارات للذهاب للعمل. لذلك، أدت أوقات التنقل المتزايدة إلى الضغط على أوقات الفراغ. ووجدت الأبحاث أن رضا الناس عن وقت فراغهم ينخفض بشكل ملحوظ مع زيادة وقت تنقلهم. كما ترتبط التنقلات الطويلة بارتفاع ضغط الدم والتوتر والغضب وتيبس الرقبة والتعب وآلام أسفل الظهر والسمنة. وجدت غالوب أن التنقلات لمدة 45 دقيقة أو أكثر مرتبطة برفاهية عامة سيئة بالمزاج اليومي والصحة. عام 2022، وجدت غالوب أن التنقل لمدة 30 دقيقة فقط مرتبط بزيادة التوتر والغضب. أما بعد التمكن من تجنب التنقل أثناء الوباء، فحتى نصف ساعة صارت لا تطاق بالنسبة لكثير من الناس.
«لا يجب أن يتم العمل بهذه الطريقة» هذا ما خلص إليه كثير من العاملين في المكاتب الذين أيقظتهم تجربة إلغاء التنقل اليومي أثناء جائحة كورونا. ومع ذلك، بالنسبة للأشخاص الذين يعملون في وظائف جاهزة عن بُعد، وجدت غالوب أنه لتحقيق أقصى قدر من مشاركة الموظفين، فإن الجمع بين الحضور الشخصي والعمل عن بُعد يعمل بشكل أفضل. بالنسبة لأولئك الذين يعملون في وظائف تتطلب التعاون المشترك، فإن يومين إلى ثلاثة أيام في المكتب تعزز نتائج المشاركة والرفاهية.