حسن اليمني
كلنا نعلم أن لا شيء يبقى كما هو للأبد، وبهذا الفهم نعلم أن ميزان القوة بين فلسطين والاحتلال الإسرائيلي لن يستمر للأبد، ببساطة لأنه لا يمكن أن يستمر قهر المنطق في فلسطين للأبد.
صحيح أن المشروع الصهيوني الذي انطلق منتصف القرن الثامن عشر وانتصر بالنجاح عام 1948م بقيام كيان باسم إسرائيل ليحل محل فلسطين أصبح فيما يبدو اليوم واقعاً قائماً كجزء من منظومة دول العالم المعترف بها بما يجعل الاعتقاد باستمرار بقائها أمراً طبيعياً والاعتقاد بزوالها يعتبر خارج العقل والمنطق، يحكم ذلك قواعد الوجود في النظام الدولي وآلياته المتوفرة بشكل أسس لها علاقات مع دول الجوار العربي القريب والبعيد وحتى وصل في بعضه إلى درجة التحالف معه ضد من يشكك بطبيعة وجوده.
والصحيح أيضاً أن فلسطين لم تنقرض تماماً، إذ لا زالت موجودة ليس كدولة وإنما حالة قائمة توضع بين قوسين غالباً وتتجاوز الأقواس بعض الأحيان وبحسب التفاعل الطبيعي بين البشر في تلك المساحة، وإذا كانت البداية لصناعة هذا الواقع كانت بتشريع الحق وإظهار الفائدة والمصلحة ثم انتقلت بالسلاح والهجرة ثم بالقتل والطرد الذي وبرغم شناعته وقسوته لم يحقق النجاح التام لتبدأ مرحلة الحرب والمقاومة حتى تم نزع السلاح بشكل تام من المقاومة مع تفعيل القوة العسكرية ليدخل الوضع مرحلة استخدام الحجر والعصي يقابله كسر العظام وخنق سبل العيش ما أدى إلى تصنيع آليات للمقاومة ابتدأ بمقذوفات سخر منها اليائسون لكنها أصبحت اليوم صواريخ ثم تصاعدت لتصل مرحلة تصنيع طائرات بدون طيار تحمل قذائف تدك بها مجمعات الكيان في داخله.
بين الحجر والصاروخ قرابة ثلاثين عاماً فقط وخلال هذه المدة حلّت المقاومة محل دول الجوار العربي في المقاومة العسكرية بعد أن سئمت تلك الدول من استمرارية المواجهة، في حين لا تسأم المقاومة ولا تيأس بل إنها تتصاعد بقوتها التصنيعية الذاتية المحاصرة براً وبحراً وجواً، بل إنها ومع تتالي المواجهات تزداد قوة كل مرة حتى وصلت درجة مؤثرة على أمن واستقرار مجتمع الكيان في ممارسة حياته الطبيعية بما يؤكد أن هذا الواقع ليس طبيعياً وغير قابل للاستمرار للأبد.
لا يوجد حلٌّ في الأفق ولا أحد مهتم أصلاً بإيجاد حلٍّ بما في ذلك طرفا الصراع في فلسطين (الاحتلال والمقاومة) ولا يوجد قاسم مشترك يمكن التلاقي حوله أو التفاوض بشأنه، الأمر يتجه إلى إما فلسطين أو إسرائيل ولا ثالث بينهما، وضع كهذا لا يمكن لعاقل أن يعتقد باستمراره للأبد، ومن الغباء حقاً أن يعتقد أحد أن الزمن كفيل بأن يحول الباطل إلى حق أو الحق إلى باطل، الأمر لم يعد يحتاج إلا لبعض الوقت لترقية التصنيع الذي سيزيد درجة الإيذاء لتنتقل المعادلة بالاتجاه المعاكس، وهو ما يتم حالياً بالفعل من خلال التصعيد ثم وقف إطلاق النار والاتفاق على هدنة تلو هدنة، وهو المطلوب فعلاً لتغيير المعادلة في الاتجاه المعاكس.
إن سقوط ليبيا وسوريا واليمن والعراق والسودان ولبنان ينذر بقدوم سلاح جديد يجعل عودة هذه البلدان إلى الوضع الطبيعي مرهون بعودة فلسطين أيضاً إلى وضعها الطبيعي، قليلون جداً من يلحظون هذا السلاح الخفي الذي يتصنع بفعل المنطق الطبيعي لفهرسة الأمم وقواعد القوة أو الأسس التي تبنى عليها، ومن الصعب فهم كيفية ذلك ما لم نفهم ما يدور في صراع القوى العالمية باتجاه إعادة تصحيح النظام العالمي، وإذا كنا نعلم أن هذا النظام العالمي القائم حالياً هو الذي يدير ما يجري في عالمنا العربي وفرض الكيان المحتل في قلبه وأن ما يجري اليوم كما قلت سابقاً هو إعادة تصحيح هذا النظام فلا مناص من أن تكون إحدى أدواته تصحيح خطأ وجود إسرائيل محل فلسطين، وهذا أيضاً لا يكون إلا بطرد العبث الإمبريالي من المنطقة لتستعيد إرادتها ولا يمكن للمنطقة استعادة إرادتها بوجود كيان إمبريالي في قلبها وإذن لابد من عودة فلسطين لفلسطين.
إن تاريخ صراع الأمم هو الفعل الوحيد الذي يبقى ويستمر، ولو لا تمرجحه بين النصر والهزيمة والتقدم والتأخر لما استحق البقاء والاستمرار، يبقى الأمر إذن على الزمن، والزمن يحكم سرعته وبطئه قوة الدفع والحركة، وطالما أن القوة التصنيعية لآليات التدمير والإيذاء أصبحت في متناول الجميع بل وتصعد قوى من الأسفل إلى الأعلى بشكل سريع ملفت في حين تتهاوى قوى الأعلى للأسفل بترنح وبطء فإن حركة الزمن للتغيير تسرع هي الأخرى، وما كان يتم خلال قرن من الزمن أصبح يتم خلال عقد من السنين أو أقل، الشيء الذي يستحسن ملاحظته هو أن الصراع الأممي المستمر وبفعل تساوي أو تقارب قوة القتل والإيذاء وهو يتحول شيئاً فشيئاً نحو القوة الاقتصادية سيجد أنه محتاج إلى القوة الثقافية والعقائدية كأداتين لازمتين وأكثر تناسباً لحماية القوة الاقتصادية، ذلك أن روح القوة الثقافية والعقائدية تمتلك في مضمونها آليات العدل وحماية الحقوق والتي بها يتصحح النظام العالمي وهو أمر فطنت له الصين وروسيا في ذات الوقت الذي تسعى فيه القوة الحالية لتعديل الطبيعة الإنسانية وسلخها من فطرتها وبشريتها مما نسمعه اليوم في تشريعات ونظم اليسار الليبرالي الصهيوني الذي تتزعمه الولايات المتحدة الأمريكية بما يشير إلى أحد أهم قواعد السقوط.