سهم بن ضاوي الدعجاني
تُعد الحوارات بين الناس، من أهم وسائل البناء الاجتماعي والثقافي، حيث تقوم على تبادل الخبرات والمعارف والأفكار والآراء بين جميع الأطراف، متفقة كانت أم مختلفة.
ومن الأشكال التي يتكون فيها هذا المفهوم : اللقاءات التي تنشأ بين المثقفين والأدباء وذوي الاهتمام المشترك، لمناقشة مسائل مشتركة، أدبية أو ثقافية أو اقتصادية أو غيرها، وقد سميت هذه المجالس واللقاءات بالصالونات الأدبية أو الثقافية، وسأتناول في هذه الورقة توضيح دورها في نشر مفاهيم الحوار، وسأذكر نماذج لها، كما سأتطرق لنشأتها، ومجالات اهتمامها، وآلية عملها، وأهدافها، وأعمالها، ودورها في الحراك الثقافي المحلي، من خلال تطبيق مفهوم الحوار، مع استشراف لمستقبلها وما ينبغي أن تضطلع به من أدوار في خدمة المجتمع وخاصة الشباب الذين سيكون لهم الدور الفاعل في البناء الثقافي والحضاري لهذا المجتمع.
سأبدأ ورقتي هذه بمعلومة نشرت في الصحف في شهر ربيع الأول لعام 1429هـ، وهي قول : صاحب السمو الملكي الأمير مقرن بن عبدالعزيز: «الطيران أحب أعمالي، وساعتان في الجو تعدلان (600) في الأرض»؛ فأحب أن أوضح أن هذه المعلومة، جاءت في سياق حديث الأمير مقرن إلى الحضور في إثنينية الشيخ عبدالمقصود خوجة رحمه الله بجدة تلك الإثنينية التي يعدها الراصد للمشهد الثقافي المحلي، عروس الصالونات الثقافية وأنموذجاً عصرياً لما ينبغي أن تكون عليه الصالونات الثقافية في بلادنا.
و في رمضان1426هـ أي قبل ( 18 ) عاماً و تحديداً في أحدية الدكتور راشد المبارك رحمه الله بمدينة الرياض تحدث صاحب السمو الملكي الأمير الدكتور عبدالعزيز بن سلمان بن عبدالعزيز وكيل وزارة البترول والثروة المعدنية آنذاك ووزير الطاقة الحالي تحدث وناقش مع حضور الأحدية أسعار النفط بين الارتفاع والهبوط والعوامل المؤثرة فيها وقد وصف الأستاذ عبدالله القفاري أحد أبرز المثقفين السعوديين الحاضرين تلك الأمسية بقوله : «إن النقاش الحر والجريء والمكاشفة الصريحة هي القيمة الكبرى في تلك الندوة» .....
الصالونات الثقافية في المملكة لم تعد تقف عند حدود «المقهى الأدبي»، ذلك المفهوم التقليدي بل إن الصالون الأدبي السعودي قد تجاوزها، ليمارس دوره بريادة إلى جوار المؤسسات الثقافية الرسمية فقد أصبحت تقوم بدور أكبر، يؤهلها لأن تتحول إلى ملتقيات أدبية منظمة، تمارس دورها التنويري في تناول قضايا المجتمع، وما نراه من سجال أدبي وثقافي على صفحات صحفنا المحلية ومواقع التواصل الاجتماعي المختلفة، يُعد دليلاً واضحاً على خروج الصالونات الثقافية السعودية، من عباءة المقهى الأدبي بمفهومه القديم، لتتحول إلى عصرية المنتديات وتنظيمها وفاعليتها في الحضور والطرح وتشكيل الرأي العام.
هذه «عناوين» قرأتها ذات يوم في صحافتنا المحلية وغيرها عبر وسائل التواصل الاجتماعي، تصف شيئاً من طقس الصالونات الثقافية في مجتمعنا السعودي، وتؤكد الحضور المميز الذي يضخ «الحياة» في المشهد الثقافي المحلي، والمتأمل لتلك العناوين يجدها بوابات عبور إلى قضايا المشهد الفكري السعودي.
يقول الأستاذ: عبدالله القفاري -المفكر السعودي المعروف -: « تبقى الجهود الثقافية - غير الرسمية - أكثر جدوى في نظري في استلهام حالة حراك ثقافي اجتماعي، لمن يريد أن يقرأ في ملامح مجتمع، بعيداً عن «بيروقراطية» مؤسسات الثقافة الرسمية؛ وفي مدينة مثل الرياض هناك عدة ندوات أو صالونات منزلية يقوم عليها رجال أفاضل، يسعون من خلالها لسد ثغرة ثقافية /اجتماعية.. لكن المشكلة التي ألمسها في بعض هذه الندوات، أنها إما أن تقدم غذاءً ثقافياً بائتاً أو مستهلكاً، وتفتقد لروح المبادرة في استلهام حالة جوع لمناقشة قضايا ومسائل وطنية ملحة تسد ثغرة فيها، أو أنها تحولت بقدرة قادر إلى حفلات تكريم من نوع آخر، وربما أصبحت وسيلة لطلب الشهرة ونيل الوجاهة على سُلم المثاقفة الصعب «*.
ورغم ذلك تبقى الصالونات الثقافية الاجتماعية منابر للرأي، تمنح المشاركين شجاعة إبداء الرأي، وتمنح المتلقين شجاعة الرد.. وتتيح للحضور الاستماع وفرصة التحليل بأسلوب جميل ولغة سليمة تخلق جواً حميمياً بين الحضور.
مفهوم الصالون الثقافي:
الصالون الثقافي هو: لقاء يجمع عدداً محدوداً من الناس، بحيث يتم النقاش بينهم حول قضية عامة، أو الحديث عن قيمة أخلاقية أو اجتماعية يحتاجها المجتمع، أو مشكلة حياتية يعاني منها الناس، أو أخذ الرأي حول مسألة غامضة تحتاج إلى بحث وحل، بحيث يتم طرح الموضوع للنقاش في الصالون، ثم يبدأ الحضور في الإدلاء بآرائهم وأطروحاتهم، حسب نظام يضعه مسؤول الصالون، بما يسمح بتداول الأفكار بحرية وبنظام، مع ضرورة أن يشعر الحضور بالفائدة.
وتتميز فكرة الصالون الثقافي عن الندوات والمحاضرات، بأنها تحتوي على عنصر المشاركة والحوار بين الحضور، وهو ما يحفز الذهن، ويكسر حاجز الملل، ويدفع إلى القراءة والمناقشة والإبداع.
نشأة الصالونات الثقافية:
تعود أصولها إلى أسواق العرب القديمة، مثل سوق عكاظ الشهير، الذي جمع بين التجارة والأدب والفنون، وكان بإمكان كل من يملك الثروة والجاه، وكان مولعاً بالأدب أن يفتح بيته ليكون ملتقى أدبياً، يتبارى فيه الشعراء ويتناظر فيه الأدباء.
لقد كان للصالونات الثقافية - فيما مضى - الفضل الكبير في الأخذ بأيدي الكثير من المبدعين والمفكرين الكبار الذين قادوا البلاد العربية إلى النهضة الثقافية، وإلى الاستقلال الوطني في بداية القرن العشرين، حيث كان هناك العديد من الصالونات الثقافية التي تطرح فيها الأفكار السياسية والعلمية، ومن أهم هذه الصالونات:
صالون مي زيادة الذي أنشئ عام 1933م، وكان من رموزه: طه حسين؛ وأحمد لطفي السيد، والشيخ مصطفى عبد الرزاق، وسلامه موسى، وصالون أحمد باشا تيمور، ومن أعلامه: الشيخ محمد عبده، والشاعر إسماعيل صبري، وغيرهما، وصالون العقاد.
أهداف الصالونات الثقافية:
من خلال استقراء سريع لأهداف معظم الصالونات الثقافية في بلادنا، فقد وجدت أنها تتفق في عدد من الأهداف، أذكر منها على سبيل المثال ما يلي:
• تقديم زاد من المعرفة في المجالات المختلفة.
• تقريب وجهات النظر المتباعدة حول بعض الأفكار والمواقف، وتعويد النفس على إمكانية الاقتناع والانصياع للرأي السديد.
• تكريم العلماء والمفكرين والشعراء والأدباء وغيرهم من المبدعين من داخل المملكة وخارجها، وتوثيق مسيرتهم.
• الحضور الفاعل في المناسبات الوطنية والمشاركة فيها والعمل على تنشيطها والإفادة منها.
أنواع الصالونات الثقافية:
من خلال ما يكتب وما ينشر عن هذه الصالونات وجدت أنها تنقسم إلى الآتي:
• صالونات فكرية: وهي التي تعنى بالقضايا الفكرية البحتة، وتتميز بالحضور الأكاديمي النخبوي.
• صالونات اجتماعية: وتستهدف الحضور الاجتماعي، من خلال طرحها للموضوعات العامة والقضايا الاجتماعية، وتميل إلى التكريم والحضور الإعلامي.
• صالونات متخصصة: وهي ما تكون في مجال من المجالات التاريخية، أو الاقتصادية، أو القانونية، أو غيرها، وتقتصر على حضور شريحة ذات اهتمام مشترك.
• صالونات أدبية: وتستقطب أصحاب الشأن الأدبي كالشعراء والنقاد والكتاب وغيرهم من عُشاق الأدب وفنونه.
الصالونات الثقافية وفضيلة الحوار:
إبرازاً لمبدأ الحوار الوطني الذي تُعد الصالونات الثقافية من أهم قنواته الشعبية في المملكة العربية السعودية، وتسجيلاً لبعض الصور المشرقة في مشهدنا الثقافي السعودي حاولت - منذ أكثر من خمسة وعشرين عاما - رصد نشاط بعض الصالونات الثقافية على امتداد الوطن الغالي، لعل في ذلك شيئاً من الثناء الذي يستحقه أولئك المواطنون المخلصون، أصحاب تلك الصالونات الذين جعلوا منازلهم مجالس علم ومنارات ثقافة، وواحات حوار وطني بنّاء.
كما آمل أن يكون هذا الرصد دليلاً لناشئة الفكر والأدب في بلادي، ومرشداً لحضور تلك الصالونات، لعلهم يجدون فيها فعلاً ثقافياً، وزاداً فكرياً، مبنياً على حوار جاد بناء، يسهم في صنع بيئة مدنية صالحة، ووعي فكري وثقافي، وداعية للحوار بين مختلف الشرائح والفئات.
ومن هنا فإن دورها يُعد موازياً للمنابر الرسمية كالأندية الأدبية وجمعيات الثقافة والفنون إلى غيرها من المؤسسات التي ترفع راية الفكر والثقافة.
الصالونات الثقافية المحلية:
إن انتشار المجالس الأدبية أو «الصالونات الثقافية» في بلادنا، التي يحلو لبعضهم تسميتها بحسب أيام الأسبوع : السبتيّة – الأحديّة – الإثنينيّة وهكذا، أقول : إن انتشار تلك الصالونات في مجتمعنا السعودي في الآونة الأخيرة يُعد ظاهرة صحية في مشهدنا الثقافي المحلي، فخميسية الشيخ حمد الجاسر (رحمه الله) الثقافية، وإثنينيّة الشيخ عثمان الصالح (رحمه الله)، وندوة النخيل للدكتور محمد بن سعد بن حسين( رحمه الله )، وأحدية الدكتور راشد المبارك ( رحمه الله )، وندوة الرفاعي، وندوة الوفاء بمنزل عميدها أحمد محمد باجنيد ( رحمه الله)، وأحدية أبي عبدالرحمن بن عقيل، وندوة سعود المريبض وثلوثية الدكتور محمد المشوح بالرياض، وإثنينية الشيخ عبدالمقصود خوجة (رحمه الله)، وثلوثية الطيب وأسبوعية الدكتور عبدالمحسن القحطاني في مدينة جدة، وإثنينيّة « محمد النعيم» ومجلس وادي القرى الثقافي في محافظة العلا بمنزل الدكتور سالم البلوي، وغيرها على امتداد وطننا الغالي، مشاهد ثقافية راسخة شامخة شاهدة على حب أهل هذه البلاد للعلم والثقافة.
الصالونات لم تعد أدبية فقط:
المتابع للصالونات في المملكة، يجد أن هناك تميزاً وتنوعاً بينها، مما يجذب المتلقي ويغريه بالمتابعة، فهناك صالونات تغلب عليها الصبغة الأكاديمية، طرحاً وحضوراً ونقاشاً، وهذا اللون له رواده ومحبوه، كما أن هناك صالونات أخرى، تتخذ من «الاحتفاء» بالناجحين وتكريمهم ميزة خاصة، وهذه – أيضاً – لها حضورها الإعلامي في مشهدنا المحلي، وهناك صالونات متخصصة في التاريخ والاجتماع والإعلام والصحافة، وغيرها من العلوم والمعارف الإنسانية.
كما لا ننسى أن تلك الصالونات هي في الواقع قنوات شعبية، تسهم بشكل جاد في خدمة الحركة الثقافية في بلادنا مما يؤكد أن الصالونات قد تجاوزت الصفة الأدبية إلى الإطار الثقافي الأشمل.
الصالونات الثقافية نواة للحوار:
تحت وطأة الشعور بضرورة الوصول إلى شخصية مستقلة، تولد الإحساس لدى الشباب للبحث عن مرجعية أخرى يتم من خلالها استلهام الإبداع، جاءت هذه الصالونات مقصداً للناشئة الطامحين.
وليس بوسع المراقب لهذه «الصالونات» أن ينكر حضورها الثقافي في نفوس المثقفين، أو يتجاهل إسهامها الجاد في تناول العديد من القضايا الوطنية المعاصرة، مؤكدة دورها في صناعة منجز وطني جديد، غير أنها رغم ذلك كله تظل محاولة تنقصها الروح المؤسسية ذات الصفة التأثيرية الفاعلة، فهي مجرد جهود فردية، تحاول الإسهام بما تستطيع، في سبيل خدمة الوطن المعطاء، والتأكيد على رسالته الحضارية لبناء مستقبل يحترم الرأي والرأي الآخر؛ فلأصحابها كل الشكر والامتنان والدعاء لهم بالتوفيق والنجاح، إذ أصبحت «الصالونات» تعيش حالة حوار دائم مع المجتمع وهمومه وشجونه وقضاياه التنموية.
مستقبل الصالونات الثقافية:
هناك أسباب وعوامل قد تحدد – في نظري – مستقبل الصالونات الثقافية، كانتشار مؤسسات المجتمع المدني، مثل الجمعيات العلمية في الجامعات السعودية، والتكتلات المهنية في القطاع العام والخاص، ومراكز الأحياء، والدوريات العائلية، وكذلك انتشار جمعيات النفع العام، مما أدى إلى تطوير آليات التعبير الحضاري عن الآراء والاهتمامات والتخصصات؛ وهي آليات لم تكن موجودة فيما سبق، ولا شك أن مثل هذه الآليات تعد رافدا قوياً للصالونات الثقافية في بلادنا. لذا فإني أقدم فيما يلي بعضاً من التوصيات، كمساهمة متواضعة في سبيل المحافظة على هذه التظاهرات الثقافية، التي أعدها صورة من الصور الحضارية لهذا الوطن الحبيب، التي ينبغي المحافظة عليها، إذ هي من العناوين العريضة لهذا الوطن الغالي، وكلي أمل أن تجد حقها من العناية والاهتمام.
توصيات:
لمحاولة تنشيط هذه الصالونات الثقافية ودعم استمرارها، فإنه يسعدني أن أطرح بعض المقترحات في هذا الجانب، ومنها:
• إقامة ملتقى عام بصورة دورية، في كل مدينة من مدن بلادنا العزيزة، يضم أصحاب الصالونات الثقافية في المملكة، برعاية من وزارة الثقافة.
• إصدار مطبوعة دورية، تُعنى بهذه الصالونات وأخبارها وأنشطتها.
• أن تتواصل هذه الصالونات الأدبية مع أصحاب المواهب الواعدة، في التعليم العام والجامعات القريبة منها، للتعرف على تلك المواهب ورعايتها منذ وقت مبكر، ولربط هؤلاء الواعدين بالمجالس الثقافية، لمزيد من تكريس ثقافة «الحوار» مع الآخر.
الخاتمة:
في نهاية هذه الورقة، يتضح لنا مدى أهمية هذه الصالونات الثقافية، والحاجة الكبيرة إليها، خاصة في ظل رؤية المملكة 2030 و في سبيل تعزيز ثقافة المجتمع المدني و تطوير مؤسساته لتساهم في تحقيق أهداف الرؤية بقيادة سيدي ولي العهد الأمير محمد بن سلمان حفظه الله، لتقوم تلك الصالونات الثقافية بدورها المنشود في نشر ثقافة الحوار، واستثمار قيمة الاختلاف، كسلوك ممارس بين النخبة المثقفة في المجتمع السعودي، وكافة المهتمين، الأمر الذي يتطلب من المجتمع ومؤسساته الرسمية والشعبية، تشجيعاً فاعلاً لمثل هذه الصالونات والعناية بها، وبنتاجها الثقافي، وتعزيز دورها الحضاري والثقافي داخل المجتمع المحلي, من خلال إبرازها إعلامياً، وربط الأجيال الجديدة بها، والتشجيع على ارتيادها، والمشاركة الإيجابية في كافة فعالياتها المتنوعة، والإفادة مما تقدمه وما تمارسه من مهارات حوارية، من خلال الترسيخ لمبدأ قبول الآخر، وقبول التنوع في الآراء، واحترام الأفكار المختلفة، والرقي في الطرح والمناقشة، وتناول جميع القضايا التي يهتم بها الإنسان داخل مجتمعه، في جو من الحرية والاحترام المتبادل، والحوار الهادف، لبناء أجيال قادرة على التفاهم والتعايش مع الآخر في الداخل و الخارج والعمل المشترك المثمر، بما يعود على هذا الوطن وأبنائه بالخير والرفعة والتقدم في شتى جوانب الحياة المختلفة في مملكة الإنسانية.