حامد أحمد الشريف
عادةً ما ننطلق في قراءة أيِّ كتابٍ، من ظهره، وكلّنا أمل أن يُطلعَنا على شيء من خباياه، دون إشغال أنفسنا بالبحث عن الجمال والإبداع في هذا المكان تحديدًا، إذ إنّ هذا ليس موطنه. وهو ما حدث معي بالفعل وأنا أقلّب كتاب «رسائل حسب الرغبة»، للكاتبة المبدعة عهود عبدالكريم، إذ لم يكن يعنيني شيء غير محاولة الاطّلاع على محتوى كتاب ظننته مختلفًا، وهو يعيد إحياء جنس أدبيّ يكاد يندثر، وأعني بذلك أدب الرسائل. فوجئت حينها بالقيمة الجماليّة، والمغازي العميقة، والدلالات السيميائيّة التي حفلت بها هذه الكتابة الظَّهريّة، متجاوزةً ما كُتبت لأجله. وكان في ذلك إضاءة على ما ينتظرنا داخل هذه المخطوطة، ممّا يشي بأنّها مفعمة بالمشاعر والأحاسيس؛ فالرسائل -كما هو معروف- مرتعها الخصب العواطف، ولا تكاد تبتعد عنها، فكيف بها وقد اقترنت بالرغبة التي تُعَدّ نزعة شعوريّة يتهاوى أمامها العقل، وهي الأقدر على مواجهته وتحييده, والكتاب -كما يُقال- يُقرأ من عنوانه.
لعلّ ذلك ما أظهر ابتسامة الرضا التي ارتسمَت حينها على شفتيَّ وأنا أمرّ على كلمات الكاتبة، المطرّزة بالإبداع بعمقها المثري؛ وهي تذكر لنا، بدايةً، مفارقةً ترتبط بصدقنا في التعامل مع مَن حولنا وما قد نحصده من ويلات إن كان هذا خيارنا، في قولها: «كانت حبيسة الدفاتر.. وخِلْتُ أنّ هذا جزاء صدقها..» انتهى حديثها. فهل الكلمة الصادقة تحبس؟ أظنّ أنّني أتّفق تمامًا مع هذا المعنى العميق، فالبشر، بالفعل، يحبّون كذبنا، ويشجّعوننا عليه، ويكرهون صدقنا وعفويّتنا ويتمنّون حبسهما في جوفنا، ولا يغفرون لنا سذاجتنا أحيانًا وتجاوزاتنا، إذ يخالونها تنمّ عن مقاصد سيّئة تجيش في صدورنا. فلِمَ لا تكون الرسائل كذلك، إن احتملت الصدق والعفويّة وابتعدت عن المحدّدات الاجتماعيّة, معنًى غاية في الروعة والواقعيّة, وبالتالي أجده مبرِّرًا مقبولًا لتأخُّر نشر الرسائل عشر سنوات، وكانت -في ما يبدو- لتتأخّر أكثر من ذلك لولا أن قيَّضَ الله لها من يلحُّون على الكاتبة ويدفعونها لنشرها...
أظنّكم تتساءلون إن كان هذا كلّ ما نطالعه في ظهر الكتاب قبل شروعنا في قراءته. وسأجيبكم بـ»لا»، فلا يزال للجمال الذي توقّفنا عنده بقيّة، نجده في قولها الشاعري: «الآن أنشرها كغسيل بلّلَهُ الدمع على حِبال الورق...» انتهى قولها. يا لجمال هذا الوصف وعذوبته ورقّته, فإن كانت الرسائل كُتبت بمدادٍ يقطر جمالًا وإبداعًا مماثلًا، فنحن موعودون بالفعل بكتابٍ مختلف في عنوانه ومحتواه، وقيمته الإبداعيّة والجماليّة، بغضّ النظر عن تبويبه، وجنسه الأدبيّ. فالكتابة إنّما ينهض بها جمالُها وشاعريّتها ولغتها الأدبيّة الباذخة بالدرجة الأولى، وقد يُسقطها جنسها الأدبيّ بمحدّداته وإطاراته الصعبة. وفي الرسائل لا محدّدات تعبث بها، فهي تتّكئ على الجمال بالدرجة الأولى، وتقتات عليه. وهو ما ظهر واضحًا جليًّا من خلال هذه البداية التي لم تكن خجولة، كما هو معتاد، بل صرخت في وجوهنا بجمالها وهي تخبرنا من خلال هذه العبارة المختزَلة والمكثّفة أنّ هذه الرسائل التي سنطالعها تشبه الغسيل المنشور، وإن كانت بُلّلت بالدمع بدل الماء، دلالةً على حزنها وصدقها وواقعيّتها. وما أجمل أن يصبح الورق هو حبل الغسيل الذي يُطلعنا على هذه الرسائل, وكما يلاحَظ هنا، إنّ هذا الوصف جاء عذبًا رقراقًا، وبدا غارقًا في الجمال من رأسه حتّى أخمص قدمَيْه.
ولعلّها من ولعها بالتميُّز والإبداع ككاتبة واعدة، إذ يُعَدّ هذا إصدارها الأوّل، لم تكتفِ بذلك رغم ضيق المساحة، فاستحضرت التناصّ القرآنيّ في هذه العجالة الكتابيّة، في قولها: «اِقرأوها بسلامٍ فرحين»، تناصًّا مع قول الله تعالى في الآية 46 من سورة الحجر ( ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ ). كلّ ذلك حفل به ظهر الكتاب فلم أستطع إذ وقعت عليه الفكاكَ منه، بل أقبلت على قراءته بنهمٍ كبير، ولم يعد يعتريني شكٌّ في قيمته الإبداعيّة.
كان ذلك بالفعل ما وجدته وأنا أدلف إلى هذه المخطوطة، من خلال الكاتب والروائي الروسي المعروف «أليكسي مكسيموفيتش بيشكوف» الذي اشتهر باسم «مكسيم غوركي»، وعُرف عالميًّا بروايته الواقعيّة الرائعة «الأمّ»؛ وجدْتُه هنا يأخذ بيدي من خلال عبارة له انتقتها الكاتبة بعنايةٍ فائقة -وكانت قد لعبت هذا الدور باقتدار، فاختياراتها موفّقة، تشير إلى عمق هذه الرسائل ومغزاها- وهي بمثابة قولٍ مأثور: «هناك لحظات يقول فيها الرجل للمرأة عن نفسه أكثر ممّا ينبغي لها أن تعرف، وبعدها ينسى ما قاله لها، أمّا هي فتتذكّر دائمًا». كان خيارًا موفّقًا بالفعل دخول العمل بعبارة جزلة كهذه، تنطوي على إشارة خفيّة إلى قيمة الكلام، وأبعاده التأثيريّة، على المدى المنظور أو على المدى البعيد، في المتلقّي، تبعًا لجنسه. فالمرأة بعاطفتها الجيّاشة حين تحبّ تحفظ كلّ كلمة يقولها حبيبها، وإن كانت مجرّد ثرثرة قد ينساها هو. ذلك أنّ المرأة تحكمها العاطفة، وتؤطِّر ردودَ أفعالها، فهي تحفظ وتفهم وتتحدّث من خلالها، ولا علاقة لما تسمعه منها بقدراتها العقليّة التي ترتهن غالبًا لعاطفتها.
وكأنّ كاتبتنا أرادت من خلال هذه العبارة العميقة، الإشارة إلى المحتوى المشابه الذي تحمله رسائلها ودلالاتها المرتبطة بها كأنثى، وحاجتنا لقراءتها بتمعُّن بدون استعجال، فمستويات فهم هذه الرسائل متعدّدة، لا نحيط بها إن لم نجلّها ونقدِّرها ونجتهد لسبر أغوارها. وقد أكّدت لنا هذا المعنى من خلال إيرادها عبارةً أخرى لا تقلُّ دسامةً عن أختها، للكاتبة والروائيّة الأمريكيّة «ويندي ليسر»، تقول فيها: «قد يكون إدراك حقيقة الأشياء أحيانًا أعمق حين غيابها أو فقدها». ما يُظهر أنّ الكاتبة جادّة في دفعنا للغوص في معاني رسائلها، والتحاور حولها، معلنةً صراحةً أنّها ليست رسائل سطحيّة، وتحتمل العديد من التأويلات. وفي ذلك -كما هو معلوم- شجاعة تُحسَب لها وعليها، في ظلِّ مجتمعٍ لا يرحم، ويُسيء الظنّ -غالبًا- في كتابات الأنثى، ويعتبرها تجارب شخصيّة، فينتقص من كاتبتها ويشكّك في سلوكيّاتها. لكنّ الكاتبة هنا، إذ تبتدئ بهذه العبارة الجزلة، تعلن أنّها غير معنيّة إلّا بالأدب والمثاقفة والإمتاع والاستمتاع، ولا يهمُّها تأويل المؤوِّلين بعيدًا عن حياضها.
وإذا ما ربطنا مقولة «ويندي ليسر» بالرسائل، يتأكّد لنا أنّه كان علينا التأنّي والاجتهاد في تفسير المواقف، وحُسن الظنّ بأصحابها بدل دفعهم لتسطير رسائلَ تبلّلها أدمعنا عند قراءتها، ويكون ذلك بعد فوات الآوان. والعاقل -كما هو معلوم- ينبغي أن يدرك قيمة الأشياء قبل فقدها، حتّى لا يتذكّر مقولة «ليسير» وهو يعيش الخيبات ويعتصره ألم الفقد.
قُسِّمَ هذا الكتاب على هيئة فصولٍ أربعة سمِّيَت بـ»الوصال»، وفي ذلك أيضًا إشارة جميلة إلى العمق الذي تنتهجه الكاتبة في مدوّنتها هذه. فالرسائل في ظنّها تتعلّق بالوصال بين المحبّين، أو هذا ما تعارفَ القوم عليه ولا تزال قصيدة مهندس الكلمة الشاعر الأمير بدر بن عبدالمحسن، المتعلِّقة بالرسائل، تذكِّرنا به، وقد عنونها بـ «الرسايل»، وصدح بها مطرب العرب الفنّان محمد عبده، ومنها قوله: «لا تردّين الرسايل، ويش أسوّي بالورق، وكل معنى ذاب فيها واحترق». ولعلّي أضيف هنا أنّ الرسائل في عمومها هي بمثابة وِصال بالفعل، ولكنّها ليست بين المحبّين فقط، بقدر ما هي وصالٌ مع مشاعرنا النازفة. فالرسائل كثيرًا ما تُكتب، حتّى لو لم يكن هناك طرف آخر يتلقّاها، إذ يكفي أن نستخدمها لبثّ همومنا وشكوانا، ونحبِّرها بمشاعرنا التي يصعب البوح بها، كما يتبادلها المحبّون، أكان في حال الوصال أو الفراق، الشكر أو اللوم... هي مشاعر بالدرجة الأولى، نسكبها على أوراقنا، ولا يهمّنا إن قُرئت أو بقيت طيّ الكتمان «حبيسة الدفاتر»، كما ذكرت الكاتبة آنفًا. وأظنّها قد وُفّقت حتّى اللّحظة في كلّ قراراتها، بما في ذلك أصالتها في تنظيم الفصول وعناوينها التي احتملت الكثير من المعاني المتّصلة بمحتوى الرسائل.
فوجدناها في الوصل الأوّل، المعنون بـ»رسائل.. لم يستلمها ساعي البريد»، تؤكّد ما ذهبت إليه من كون الرسائل تُعَدّ حلقة وصل مع مشاعرنا؛ فهي هنا لم ترسَل إلى المعنيّ بها، بل اكتفت الكاتبة بتحبيرها والاحتفاظ بها تخليدًا لمشاعر ضاق بها صدرها، وكادت تقضي عليها لولا نثرها على أوراقها. ولقد أظهرت هذا المعنى عبارتها الاستهلاليّة التي بيّنت أنّ مجموعة الرسائل المدرَجة تحت هذا التبويب المرحلي، هي الأشدّ ألمًا وصدقًا، والمعنيّة أكثر من غيرها بالحبس الجماعي. وفي ذلك ما يحفّز -بالطبع- على مطالعتها. وكانت قد بدأتها بالقصّة الأمّ التي وضعتها عنوانًا لهذا الكتاب، أعني بذلك رسالة «حسب الرغبة» التي ظهر فيها ما يشفي صدورًا توّاقة للجمال؛ ولو لم تحفل إلّا بعبارتها التي انتهت بها لكفى، وذلك عند قولها: «رغبتُ وبشدّة أن نجلس على سفح جبلٍ قربَ غيمةٍ كسولة يعمّنا هدوء الليل ونتحدّث عن أيّ شيء مهمّ وغير مهمّ ونضحك، تخبرني بقصّة قديمة وأخبرك بقصصي الجديدة وتمضي سويعات من الهناء.. ثمّ أعود لحياتي وتذهب بعيدًا عنّي ونُكمل قصّتنا الغريبة».
في هذه العبارة الجميلة ما يشير إلى محتوى الكتاب الذي أنبأتنا بداياته عن اتّخاذه من مستويات الفهم المتعدّدة نهجًا، وابتعاده -يقينًا- عن السطحيّة، كما يظهر من خلال هذه القُصاصة التي تعمّدت -في ما يبدو- الإتيان بسفح الجبل الذي يشير إلى أَسفله عندما يغلظ، فيسفَح فيه الماءُ، وجمعه سُفُوحٌ، والسُّفوح تعني أيضًا الصخور الليِّنةُ المنزلقة. وإذا ما استوعبنا هذا المعني الحَرفيّ للّفظ المستخدَم، يسعنا فهم ما قيل على أنّ فيه تلميحًا لصعوبة هذه العلاقة -بدلالات الجبل الذي يرمز غالبًا إلى هذا المعنى- وسهولة انقضائها، نظرًا إلى الليونة والانزلاق اللّتين يحتملها السفح. خلاف ما في هذه العبارة من دلالة سيميائيّة تشير إلى أنّ اجتماعهما، على ما فيه من سعادة، يعقبه غالبًا خلاف. وكلّ ذلك نستطيع استظهاره من اللفظ المستخدَم الذي تمّ اختياره بدقّة. فالكاتبة أشارت إلى هذه الصعوبات والتضحيات التي تقدّمها وهي تخبرنا عن كذبه أو غموضه، عند اكتفائه بقصّةٍ قديمة يُعيد تكرارها على مسامعها، ممّا يعطي دلالةً واضحة على أنّه لم يكن بالصورة المثاليّة المرجوّة؛ فالمحبّة صدقٌ وتفانٍ وتماهٍ، وهو ما يظهر من فعلها هي حيث كانت تروي له القصص الجديدة، وتطلعه بصدقٍ على ما يستجدّ في حياتها، بينما هو لم يفعل. وكيف أنّها رغم ذلك تَسعد بمجالسته والاقتراب منه، وتغفر له كلّ ذلك.
وللتأكيد على سقم العلاقة التي تربطها به، ذكرت أنّ قصّتها معه غريبة، حتّى لا نبتعد عن فهم مراميها الخفيّة. فالعلاقة -كما يبدو- متصدّعة توشك على الانهيار، وقد عرّتها هذه الرسالة. والشاهد هنا أنّ الكاتبة لم تبتعد عن المنهجيّة التي صرّحت بها وانتهجتها بالفعل، وهي تنطلق في بدايتها من رسالة عميقة تُبيِّن القيمة الحقيقيّة لكلّ رسالة إن خطّها كاتب متمكن، وحبّرتها مشاعر صادقة، وأجّجت نارها علاقةٌ ملتهبة. فهي هنا توظّفها لإظهار ما يشوب علاقة الشابّ بالفتاة، وأنّها غالبًا ما تفشل بسبب زيف مشاعر الذكر أحيانًا وصدق مشاعر الأنثى.
في الرسالة التالية التي عنونتها بـ»من أيّ عمق أتيت»، نجد أنّنا ننطلق من عبارة «جان دست» التي ذيّلتها بها في قوله: «كان حديثه حلوًا كالعسل وقلبه واسعًا كسهلٍ فسيح ونفسه متواضعة»، وفي هذه العبارة ما يشير صراحةً للخداع الذي ينتهجه بعض الذكور للتغرير بالفتيات، عندما يستمطر مشاعرها بعذب حديثه، ثمّ لا تجد قلبًا يحتويها. وقد تصطدم بوضاعةٍ تخنقها. لقد قالت لنا ذلك بنت عبدالكريم من خلال رسالتها التي رسمت علاقة تربطها بشخص يتّصف بالمواصفات نفسها التي ذكرها «جان دست»، وهي تكرِّر سؤالها له: «من أين أتيت؟» وتتدرّج في التنويه باقتحامه حياتها وزلزلته أركان قلبها، مبتدئةً بـ: «من أين أتيت»، ثم: «من أيِّ عمق أتيت»، وبعدها: «من أيّ عمق مُعقّد أتيت»، وأخيرًا: «مِن أيّ وادٍ أخضرَ أتيت». وكأنّها من خلال هذا التمرحل والتموضع في الحكاية التي نقلتها لنا استفهاماتها الموجعة، أرادت أن تخبرنا أنّها رغم وضوح تغريره بها، إلّا أنّها انساقت خلفه، واستجابت لعاطفتها المهلكة. وفي ذلك ما ينبئنا بالعمق المثري الذي حملته الرسالة، ويشير إلى أنّ الفتيات غالبًا ما يقعن فريسة عواطفهنَّ رغم سوء الشباب الذي يواجههنّ. وفي هذا أيضًا صدقٌ يمتاز به الكتاب، وقلّما نجده في التجاذبات التي تكون غالبًا بين الجنسَيْن.
بالطبع لا يمكنني المرور على كلّ الرسائل، رغم قيمتها، وأهمّيّتها، فالمقال لن يتّسع لذلك كلّه. وسأكتفي ببعض الشواهد البسيطة التي نستقي منها قيمة هذا العمل الأدبيّ الأصيل، حيث إنّ أدب الرسائل يكاد يتلاشى، بعد ازدهاره سابقًا، وقت الصالونات الأدبيّة الطيّبة الذكر، وظاهرة الفاتنات العربيّات والأدباء والشعراء الذين يتقاطرون عليها، ويستلهمون منها أشعارهم وكتاباتهم، كصالون السيدة سكينة بنت الحسين الذي له خصوصيّته الأخلاقيّة، وقيمة صاحبته الاعتباريّة، لاختلاف مواصفاته عن باقي الصالونات؛ وصالون ولّادة بنت المستكفى بقرطبة. وكذلك من العصر الحديث، صالون مي زيادة في القاهرة، وصالون مريانا مرّاش في مدينة حلب... وغيرها من الصالونات الأدبيّة التي اشتهرت حتّى خارج نطاقنا العربي، كصالون «دي ستايل» في فرنسا... وما يهمّنا من كلّ هذه الصالونات الأدبيّة النسائيّة، أنّها كانت وقودًا لأدب الرسائل، إذ إنّها عادةً ما ترتبط بمراسلات نثريّة وشعريّة تدور بين مرتادي مثل هذه الصالونات، أو تستهدف صاحباتها، كقصّة ولّادة بنت المستكفي مع الشاعر ابن زيدون، التي قال فيها شعرًا:
أَضحى التَنائي بَديلًا مِن تَدانينا
وَنابَ عَن طيبِ لُقيانا تَجافينا
ولم تخلُ تلكم الرسائل من الفكاهة أحيانًا، وإن غلب عليها الغزل والولع بين ولّادة وابن زيدون، كرسالته المزيّفة على لسان ولّادة إلى غريمه في حبّها أحمد بن عبدوس، بهدف إبعاده عنها. وقد قال في مطلعها متهكّمًا به: «أمّا بعد، أيّها المصاب بعقله، المورَّط بجهله، البيّن سقطه، الفاحش غلطه، العاثر في ذيل اغتراره، الأعمى عن شمس نهاره، الساقط سقوط الذباب على الشراب، المتهافت تهافت الفراش في الشهاب...». وكذلك قصّة مي زيادة مع جبران خليل جبران التي خلّدتها الرسائل المتداوَلة بينهما، كقوله: «تقولين لي أنّكِ تخافين الحبّ، لماذا تخافينه يا صغيرتي؟ أتخافين نور الشمس، أتخافين مدَّ البحر، أتخافين طلوع الفجر، أتخافين مجيء الربيع، لمَ يا ترى تخافين الحب؟»
كلّ ذلك يقودنا -بالطبع- لمعرفة القيمة التي يحملها هذا الكتاب الذي خصّت به «عُهود» المكتبات العربيّة، وكأنّها بذلك تريد إزالة الركام عن هذا الفنّ الأدبي الذي يكاد يندثر، فأشعلت جذوته بهذه الرسائل، وإن كانت رسائلها أقرب للخيال منها للواقع، إذ لا يُعرف إلى مَن أُرسلت ولا ظروف كتابتها. ولكن، يكفيها أنّها أحيت هذا النهج الأدبي، بتنوُّع أساليبه وموضوعاته، وإن لم تبتعد كثيرًا عن الغزَل العفيف؛ فنجدها تعنون وصلها الثاني بـ»برقيّات حب مستعجلة»، بما يشبه التنوعَّ القصصي ما بين قصص قصيرة وقصص قصيرة جدًّا. وفي ذلك كلّه ما يوقفنا على القيمة الكبيرة التي يحملها هذا المصنَّف في أبعاده الإثرائيّة ودلالاته الأدبيّة والمعرفيّة. ولقد كانت بالفعل، من خلال هذا الوصل، تقدِّم لنا رسائل قصيرة جدًّا، كقولها في رسالة «مُحرّم»: «وقلتَ بأنّ الحب محرَّمٌ في شرعك.. وغير قابل للوجود.. وكنتَ أنت الحبّ». وكأنّي بها من خلال هذه العبارات المكثّفة والمختزَلة، وبمفارقة النهاية المدهشة، تحاكي القصّة القصيرة جدًّا، ولكن بطريقتها، عندما وضعتها في قالب رسالة مكتنزة بالمعاني، وكأنها تسأله باستنكار واستغراب: «إن كنتَ تؤمن بأنّ الحبّ محرّمٌ ولا وجود له، فلماذا أوقعتني في حبك؟ ألم يكن حريًّا بك وهذه قناعتك، أن لا تأتي أبدًا؟» وفي هذا إشارة عميقة لإشكاليّة كبيرة نعانيها في مجتمعاتنا، عندما نقول ما لا نفعل، ونطالب غيرنا بالالتزام بأخلاق لا نتمثّلها نحن. ما يعني أنّ كاتبتنا لا تزال تبرهن أنّها لا تكتب رسائل عفويّة، وإنّما توظِّف هذا الأدب الأصيل لإيصال رسائل عميقة تفضح سلوكيّاتنا، وتبيِّن عوار قناعاتنا، وترشدنا إلى السبيل الأمثل للنهوض بأنفسنا. وهو النهج الذي لا زلت أكرّر أنّها -في ما يبدو- وضعته نصب عينيها عند شروعها في تدوين هذه المخطوطة. فرسائلها -في ما يظهر لي- ليست مقصورة على أشخاص بعينهم، وإنّما تستهدف مجتمعًا بأكمله، من خلال بعض النماذج التخيُّليَّة التي أجادت كاتبتنا صنعها ومخاطبتها، وتلقّي ردود فعلها. ومن ذلك قولها في هذا الوصل البديع تحت عنوان «انعتاق»: «في طور الكتابة لك.. أنا أتخلّق من جديد, أُخرج الكامن في نفسي وأتنفّسك الصعداء».
ولعلّي أتوقّف عن التعليق على هذا النصّ المترَع بالإبداع، وأتركه بين أيديكم تكتشفون جماله وإبداعه وعمقه الدلالي الذي تكفّلت هذه العبارات الموجزة والمكثّفة، والنهاية المدهشة، بإيصاله. وهو بمثابة الاختبار الذي تستطيعون من خلاله معرفة أنّ الكلامَ سحرٌ، لكنّه لا يكون على الدوام حلالًا.
وفي وصلها الثالث الذي عنونته بـ «بريد الغضب المؤجَّل»، نجد أنّها تخلّصت من تحفُّظها، وأظهرت نوعًا آخر من الرسائل الغاضبة التي يحتملها بالطبع أدب الرسائل، ولكنّها كعادتها لم تبتعد عن استهدافها المجتمع من خلال هذه الرسائل القيِّمة، كرسالتِها التي عنونتها باستفهام قويّ «أتعود مثقلًا بالحياة؟» وقالت فيها بداية:
«أتعود مثقلًا بالحياة على كتفَيْك، فتُلقي باللوم على وحدتك السوداء.. على حظّك الأشعث.. على القصص التي سمعتها من أصدقاء وأقرباء وأعداء.
تعود مثقلًا بالحياة على كتفَيْك، تلقي باللوم على مشاعرك واندفاعك ولهفتك.. على أخطائك الصغرى والكبرى وعلى عذاب الضمير! .......». انتهى.
نجدها هنا تتحدّث بحرقةٍ عن قرارات يتّخذها غيرنا وندفع نحن ثمنها من دون ذنب اقترفناه سوى أنّنا رضينا أن نكون في معيّتهم ووثقنا بهم. وكانت بذكائها المعهود قد أظهرت حجّتهم التي يبرِّرون بها فعلتهم، في قولها: «تعود مثقلًا بالحياة»، في إشارة إلى أنّ أغلبهم يُلصقون قراراتهم القاتلة لغيرهم باختيارهم الابتعاد فجأة، بظروف الحياة والتزاماتها التي لا يستطيعون التملُّص منها، في وقتٍ لم يبالوا بتلك الظروف عند اتّخاذهم قرار القدوم والارتباط بنا. ما يجعل حجّتهم داحضة، لذا ينبغي محاسبتهم على استهانتهم بمشاعر غيرهم. وهي الحكاية التي تتكرّر دائمًا في ميادينَ شتّى، وتكفّلت هذه الرسالة الإبداعيّة بإيصالها، حتّى لا نقع في مغبّة قراراتٍ قاتلة كهذه لا يُحسب فيها حساب طرفَي المعادلة. ولعلّه جدير بالقول قبل تركنا هذا الوصل ما قبل الأخير، إنّ كاتبتنا لا تزال تمسك بخيوط منهجيّتها الكتابيّة، ولم تفلتها من يدها.
الآن وقد وصلنا إلى النهاية مع الوصل الرابع والأخير، وقد عنونته كاتبتنا بـ»عقد قران الرسائل» الذي قدّمت له بعبارة توضيحيّة، كما هو الحال مع الوصل الأوّل، أرادت منها تيسير فهم الرسائل المندرجة تحت هذا الوصل. قالت فيها: «الزواج قضيّة شائكة، يبدأ بنظرة وينتهي بكلمة, الزواج مسألة عاطفيّة، وسلسلة غير مستردَّة من الأخذ والعطاء, الزواج لا نلخّصه في اليوميّات، ولا تكفيه الرسائل, هنا محاولة جادّة لتوثيق مراسم الزواج رسائليًّا.. كتبتها فتاة ساقتها العواطف لحتفها/ لزواجها» انتهى. ولعلّه ظاهر من خلال هذا التعريف المكتنز بالمعاني، أنّنا سنقف على رسائل تحكي تسلسل هذا المشروع الحياتي القدَري المهمّ، وكيف أنّه يفشل لأسبابٍ قد تطلعنا عليها هذه الرسائل. وفي ذلك ما يذكِّرنا بما دأبنا في الحديث عنه، ونحن نعاود القول مرارًا وتكرارًا، إنّ الرسائل التي يتضمّنها هذا الكتاب، وإن كانت في ظاهرها تحكي قصّةً حقيقيّة ربّما عاشتها المؤلِّفة، إلّا أنّها تحمل أبعادًا مجتمعيّة تتخطّاها، وتجعلها قضايا مهمّة ينبغي الوقوف عندها والحديث حولها.
ولعلّ ذلك ما يجعل من هذه المخطوطة قيمة أدبيّة تتخطّى ما يُعرف عادة عن الرسائل التي غالبًا من تنحصر في العشق والغرام، أو الضغينة والأحقاد، أو السلطويّة والهيمنة على المقدّرات. بينما نجدها هنا تتجاوز ذلك كلّه، وتوظِّف المتخيَّل لمعالجة الواقع، مستهدفةً بوَصْلها الأخير إشكاليّاتٍ كبيرةً نعيشها في مسألة الزواج، وهي ترصد بدايته من رسالة معنونة بـ»سُنّة الوصل»، قالت فيها: «في أيّام العدّ التنازلي للنظرة الشرعيّة.. الشهر أغسطس الملتهب.. التواريخ فقدت أهمّيّتها مع تقادم العهد والوعد» انتهى. نلحظ هنا ما يمثّله هذا الواقع من قيمة كبيرة لدى الفتاة التي بدا وكأنّها تنتظر بشوقٍ كبير هذا التاريخ العظيم الذي يحدِّد مصيرها، وأشارت إلى ذلك بمفردة «ملتهب» التي ألصقتها بشهر الانتظار «أغسطس». وفي ذلك ما يؤكِّد انتظارها لهذا الموعد المقدَّس، على أحرّ من الجمر -كما يقال- بينما في الجهة الأخرى لم يكن الرجل معنيًّا بهذا التاريخ، ولم تلسعه حرارة هذا الموعد وهو يتهاون في الوفاء بوعده، ولا يلتزم بتعهّداته. ومع أنّ هذا الأمر غير واقعيّ، كما يظهر من مستوى الفهم الأوّل، إذ إنّ الرجل لا يقلّ شغفًا باللقاء المتعلِّق بالنظرة الشرعيّة، إلّا أنّه يشير من بعيد إلى اختلاف قيمة هذه النظرة بين الطرفَيْن، فالرجل لا يهمّه إلّا جسدَ الفتاة ووجهَها وافتتانه بهما، بينما هو بالنسبة لها حياةٌ ممتدّة، وآمالٌ معقودة...
هذا ما ندندن حوله في كلّ ما قلناه حول هذه الرسائل الإبداعيّة المستخدَمة التي تعالج مشاكل مجتمعيّة، ونجدها في هذا الوصل تمضي في مسيرتها المرتبطة بتواريخ معيّنة، حتّى الوصول إلى النهاية المنتخَبة، فنجد رسائلها المتتالية ترتبط بالأيّام التي تسبق النظرة الشرعيّة وتتعقّبها، وصولًا إلى الرسالة الأخيرة التي رسمت حدود هذه العلاقة بعد الزواج وفي بدايته تحديدًا. ولعلّها أرادت، كما هو الحال في جنس القصّة والرواية، تركها مفتوحة، بحيث لا نعلم ما مصير هذا الزواج، في ظلّ أنّ السنوات الأولى غالبًا لا يقاس عليها في توقُّع النجاح أو الفشل، وعنونتها بـ»نصف عام من الأشواق» التي ختمتها بتمنّي مرور الأعوام القادمة وهي تعيش في كنف الحبّ، في قولها: «وأتمنّى أن يمرَّ العام وبقيّة الأعوام ونحن في كنف الحبّ مُجتمعَيْن، على عهد الشوق مُتّصلَيْن، بيننا رسول من التفاهم وكتابنا العشق المبين».
ولعلّ ذلك ما يجعلني أنا أيضًا أتوقّف هنا، وأُغلق قلمي، وأترك لكم تقدير النهاية التي تريدونها، مكتفيًا بتوقيع هذه الرسالة منّي شخصيًّا، حامد أحمد الشريف، وقد دوّنتها استجابة لكتاب يفرض على كلّ من يقرأه أن يبعث برسالة لكاتبته عُهود عبدالكريم، معنونة بـ«قاب قوسَيْن من الوصال»، وها قد فعلت.