د.أحمد يحي القيسي
لا يرهق التعبير شيء مثل تصنع المعنى وتكلّف صياغته. ولا يعلق في مشاجب الذاكرة ويلتصق بها أكثر مما يتسم بالعفوية من صور ومقولات ومواقف.
فأصدق المشاهد ما تراه العين على طبيعتها، لكن أكثرها عفوية ما يلفتُ الانتباه دون تَقَصُّد رؤيته، حيث تهيل الصدفة على ذلك المشهد بريقَاً من الدهشة والشعرية لا تتوافر عليهما المشاهد المفتعلة والمصطنعة، ناهيك عن المتخيل منها.
ولئن أسهمت الصدفة في تكثيف الضوء على المشهد الكائن في مسرح أنظار الشاعر؛ ليتجلى في عينيه بأقصى دهشة ممكنة، فإن العفوية كفيلة بتجسيد تلك اللقطات في مخيلة القارئ؛ ليتلقاها بذات الدهشة، ما لم يجنح النص إلى الزخارف اللفظية أو تحريف العناصر المرئية والعبث بها.
وفي نص الهايكو تستشعر ذائقة المتلقي روح العفوية من منطوق الألفاظ التي يبوح بها الشاعر بتلقائيته ، فما إن يتلقفها القارئ حتى ترتسم أماراتُ الدهشة على ملامحه، ولعلي أتلمس هذه الرؤية بجلاء في نصوص الأديبة/ خيرية السقاف.
فهي تلتقط من مشاهد الحياة اليومية ما لا تتنزل إليه خواطر كاتب يفتش عن فكرة لنصه الغائب، ففي طريقها اليومي مثلاً تتعجب من العربات التي تتلوى بين الزحام ، لتبدو وكأنها تود تغيير مسارها، بينما هي تمضي معها إلى ذات الوجهة، تقول:
«الاتجاه واحد
عربات
تتلوى في الطريق»
ولفرط التلقائية تقطف من ثغر الطفل تساؤله البريء الذي قد يُجَابَه لسذاجته بالتندر والسخرية، فيتحول في نصها إلى مفارقة تكسر أفق التوقع، حيث تقول:
«متجر أحذية ؛
لِمَ لا تنتعل الحيوانات
صغيري يسأل»
ومن هايكو المدينة إلى هايكو الطبيعة والمواسم والفصول، حيث لا تنفك العفوية عن توجيه عدسة خيرية لالتقاط أبسط الصور والمشاهد في الحياة، والتي لا يكاد يقبض على فكرتها متأمل، وسأترككم في الختام قبالة هذه الباقة من نصوصها لتأمل التلقائية في التصوير والتعبير:
حتى الجدار المتهالك
مر به
الربيع
* * * *
شمس الصيف
تتغير الألوان
في وجوه الناس
* * * *
قبل الخريف
عشبة
تنبت في الجدار
* * * *
تحزنني سحابة عابرة
والأشجار تنتظر
الماء
* * * *
قطار
يمرق بسرعة
بين حقول جرداء
* النصوص الواردة في هذه المقالة منشورة في أعداد متفرِّقة من صحيفة الجزيرة في زاويتها المعروفة «لما هو آتٍ»