د. شاهر النهاري
يستحثني صديقي الكاتب علي المطوع للكتابة عن فترة دراستي للطب في مدينة الإسكندرية منتصف سبعينات القرن الماضي كلما داعب حوارنا جماليات صورها.
ويأتي ذلك من محاولاته لمعرفة الكثير والعميق والحميم من تلك السنوات السبع السمان، التي قضيتها هنالك، وأنا ما أزال أنفض ثياب مراهقة مدينة الطائف، التي نزلت منها لمدينة جدة، لأستقل رحلتي الجوية في مطارها القديم، ورطوبتها الفائقة.
نزلت مطار القاهرة، وتوجهت مندهشا لمكتب الملحق الثقافي، وسلمته أوراقي، حيث لم أكن على بعثة الدولة، ولا بد من عبور أول سنة دراسية قبل التثبيت عليها.
وهنالك وبدهشة الشوارع واللهجة والزحام والإعلانات على واجهات المباني، توجهت لمحطة مصر حيث استقبلني تمثال رمسيس الثاني عند نافورتها، وركبت القطار «المجري» إلى الإسكندرية، عبر إنسان النيل وخضاره الذي لا ينقطع، وعوالم مختلفة لم أشهد لها مثيل من قبل، وتزاحم نبهتنا إلى ما يمكن أن يحدث فيه أفلام السينما المصرية العريقة الرصينة المبدعة المتفردة حينها، وقبل أن تسود عليها أفلام المقاولات.
شط إسكندرية الثغر الباسم بالعراقة، وحاضرة الإسكندر المقدوني مدينة عركتها الحضارات، ومر على كورنيشها تنوع أحلام وقصور ومكتبة وتمثال معجز أخفته الزلازل، ومبان تحمل أنماطا قبطية ساحلية متينة بديعة.
سكنت في شقة تمتلكها عجوز يونانية، عالية السقوف، طويلة الأبواب، وكانت مفروشة بأثاث يحكي عن عراقة قديمة، وإحدى الغرف مغلقة، لحمايتها من أي كسر حرز، ووضع يد.
العمارة تقع وسط حوش بسيط وحديقة، وهي تطل على شارع شاعر الأطلال إبراهيم ناجي، «وهو نفس مسمى شارع سكناي في مدينة الرياض حاليا»، وقريبا منه محطة ترام رشدي، والتي عرفت فيها لأول مرة في حياتي القطار الكهربائي، يجري بضجيجه وخيره وشره، وقيمة تذكرته المتيسرة، التي تستطيع من خلالها بلوغ محطة ميامي في أقصى شرق الإسكندرية، أو أقصى غربها في محطة الرمل.
بجانب شقتي يوجد محل بيع مثلجات، صاحبته عانس يونانية، تبيع فيه ألذ أنواع الحلويات المجمدة على شكل كيك ملون «كاساتا»، نتناولها في صحون صينية مع شوك مذهبة، والزبائن واقفون، أمام رف يحمل الصحون، ونظراتها تستغرب وجود سعودي في ذلك الزمن، فتسأل بلهجة مكسرة عن حكايتنا وجزئيات ماضينا وبدهشة وفضول وابتسامات وضيافة.
لم يطل بي المقام، حتى قامت صاحبة الشقة بترشيح شغالة ممن تثق بأمانتها وحرصها على الشقة وساكنيها، فتحضر باكرا بالخبز الصباحي والإفطار، ثم تهب لتنظيف المنزل، والذهاب للتبضع من السوق القريب برائحة سيد درويش وهو يحث للجري بالروق، ثم تعود لتنظيف المكان وتجهيز الطعام قبل رحيلها عصرا.
ركوب التاكسي الأصفر والأسود وبسيارته مصرية الصنع كان مكلفا، وركوب الترام الأزرق كان نزهة محببة، إذا لم يكن الواقفين في ممراته أكثر من الجالسين، وهو خير وسيلة للتعرف على محطات البلد، والأسواق، وعلى جامعة الإسكندرية وكلياتها، والمكتبات والمتاحف، والأندية والمسارح والسينمات، ومناطق المطاعم، التي كانت مزدحمة مسارات أرصفتها، حتى تضطر للتشبث بيد من يمشي معك، فلا تتوه.
كلية الطب، وبقية الكليات القريبة كان لا بد من زيارات متعددة لها، والتعرف على بعض طلبتها، وسؤالهم عن الاتجاهات والمستجدات والمناهج، وعن المدرسين، وطرق التحصيل المتيسرة، وكان لنا جولات في كافتيريات الكليات، نشعر خلالها بأننا جزء من فيلم «خلي بالك من زوزو»، ويرافقك أينما تتحرك صوت السواح حليم، ودندنة وردة وأصالة نجاة تترنم عطشان يا أسمراني وربيع فريد يداعب بأمواجه الأسماع، ويظل السعودي مميز بينهم بكل ذاته وصفاته، والجميع يبادرونه بالسلام، والكلام، وعقد الزمالات.
في كلية الطب دروس لغة وعلوم، ولا بد من زيارة عظمى لقاعة المشرحة المرعبة، رغبة في قياس مدى تحمل المستجد وقدرته على إكمال مشواره بين الجثث، وكم كان لنا من حكايات.
الدروس الخصوصية كان لا بد منها، خصوصا مع قاعات محاضرات تضج بأكثر من ستمائة طالب في نفس الندوة، وصعوبة التركيز والالتقاط، والمشاركة، وحجز مكان الجلوس قبل المحاضرة بساعات.
الصداقات تحدث مع كل طيف سعودي يمرق، ومع أغلب الخليجيين، ومبتعثي دول الشام، وبما نشعر به من تقارب الأغراب للأغراب، وبالطبع فالصداقات المصرية مفيدة، وندرة من بعض طلبة أفريقيا، ومختلف جنسيات المغتربين لحاضرة مصر وتميزها ولمزيد من المعرفة الجغرافية والتاريخية والسياسية.
الفن حينها ذو قيمة، وحفلات الطرب أمنية من كان مثلي لم يجرب ذلك في السابق، والسينمات فسحات عقلية نفسية تثقيفية ممتعة، والأسعار كانت تؤثر في اختيارات ونوعية النزهة لكيلا تضيق الميزانية نهاية الشهر.
المراقص، والملاهي الليلية عوالم مغامرات واكتشاف وفرجة وحياة مرعبة لمن لا يملك الخبرة، والأسعار فيها قاتلة، وعرضة لمحاولات النص ب، والسرقة، والتعدي، ما يجعل الغريب أديب، لا يتهور بزيارتها، إلا بين عصبة من الأصدقاء، وحيطة، وقطة، ولو مرة في السنة، لمجرد اكتشاف الخوافي، أو لفسحة ضيف يأتي من السعودية محملا بالرفد المالي.
«شط إسكندرية رمانا الهوي»، كما تقول فيروز، كان قمة في الرومانسية والجمال، ومتعة السباحة كانت تصعب في بعض المناطق الشعبية، كون الحابل يختلط بالنابل، وبياعي «الفرسكا والبندق، والساقعة»، فنفضل الشواطئ الهادئة، شاطي جليم في سان جيوفاني، أو بالرحيل لشاطئ قصور الملك فاروق في حديقة المنتزه التاريخية، وزيارة متاحف السلملك، والحرملك، ودخول فندق جمال عبدالناصر «فلسطين»، والتمتع بشاطئه، الذي بشهرته وفرادته كان يضم علية القوم والفنانين والسياسيين، وما يصادف من تصوير بعض أفلام نجوم ونجمات السينما المصرية على شواطئه.
الثقافة عالم وعلم وأعلام وكتب، وإدمان الصحافة اليومية والأسبوعية، والتليفزيون والإذاعات كانت مداخل حياة وثقافة، وكم نورتنا، وأغرتنا لحضور بعض المحاضرات المميزة في كليات اللغة والفلسفة والقانون والآداب من خارج مجالنا.
حياة توقيت وندرة، ومغامرات خلقت قمة الروعة، والاكتشاف، وأحوال مصرية لحقناها في مرحلة ما بعد فرحة انتصار أكتوبر، وأناشيد «خلي السلاح صاحي، وأنا على الربابة بأغني، وأصله ما عداش على مصر»، ومشاعر القدرة ترقص بأوج مجدها في قمم التميز والتأثير في تنوع الثقافة، وربما أحكي لكم أكثر وأعمق يا صديقي علي، في مقالات لاحقة.