عهود عبدالكريم القرشي
فَتَحَ الأدب العماني ذراعيه للعالم، وضم إليه قائمة طويلة من القراء المعجبين. وجدوه أدبًا معطراً بالمحلية، متفرداً بالحكايات الشعبية، وموغلاً في الثقافة التاريخية. الأدب العماني، وبطريقة ساحرة، قادرٌ على صناعة حلوى الدهشة، واستخراج لبان الأسطورة، ثم تبخير السرد بعطر الأصالة.
في مايو 2023 توجت رواية «تغريبة القافر» بالجائزة العالمية للرواية العربية، حينها وضع زهران القاسمي «الكمة» العمانية على رأس الرواية العربية، كعلامة فخر واعتزاز يستحقها بلا ريب.
الآن يبدو أن الحديث عن رواية فازت قبل أيام قليلة، بجائزة كبيرة، أمرٌ مُربك! هل أقول «لا عطر بعد عروس» وألملم كلمات المقال وأخرج من نافذة التهنئة؟ أم أبعث بسطرين أبارك فيها لأدباء سلطنة عمان على جمال صنعة شاعرهم الروائي؟ ولكن عرفاناً بجميل هذه الرواية على عاطفتي، سأحاول تسليط الضوء على بعض ما طاب لي من السرد.
كُتبت رواية «تغريبة القافر» بماء مَعين. تنافس فيها على البطولة كل من القرية والماء، ونجحا في البقاء حتى الصفحة الأخيرة. وبين دفتي ماء الرواية توالت الأحداث بهدوء، واستمر القارئ في دوامة الأشخاص، والبحث عن الماء.
الكلمة الأولى التي صافحنا بها القاسمي وكررها «غريقة.. غريقة». فكيف لا نغرق في لجة الرواية بعيونها وآبارها وأفلاجها؟ أما الغريقة فهي «مريم بنت حمد ود غانم» والدة القافر، والتي لم تغلق عينيها أثناء غرقها، أمسكت الحياة بخيط نظرة، أرادت أن تُمهلها الدنيا وقتاً قصيراً لتضع مولودها الذي قاوم الغرق أكثر منها.
كان لدى مريم -على غير العادة- ثلاث أمهات، أم بالولادة -توفيت وهي صغيرة- وأم بالتربية، وأم بالمحبة. الأخيرة هي التي شقت بطنها وأخرجت ما فيها، وتركتها تكمل موتها غرقاً في قبرها مثل والدها الذي مات في سفينة ابتلعها البحر!
فسلام ورحمة لكل الذين كتبت أقدارهم بالموت غرقاً أياً كان نوع الماء وزمانه ومكانه.
ثم وبعد صفحات، حضرت بقوة كلمة «فلج» التي تكررت أكثر من مئة وخمسين مرة في صفحات الرواية! «فلج» لعبت هذه الكلمة تحديداً في رواية القاسمي لعبة السرد والحفر كما ينبغي لعطشى القراءة والماء. كنت أظنها كلمة محلية جداً، مندثرة جداً، غير قابلة للخروج في ضوء النصوص اللامعة، بل كنت أحسبها كلمة من اختراع أبي المزارع، فأنا لم أسمعها منذ سنوات، ولم أقرأها بهذا التكرار الباعث للتفكير. في ذهني أن والدي ابتكر مسمى «فلج» على مسار الماء الذي يسويه بردم الطين بطريقة معينة حول «ركيب الزرع»، حيث تجري المياه بحسبة هندسية معينة وتتوزع على الزرع طوال وقت الري، ثم يطلب منا قُبيل المغرب أن نقطع الفلج «أي نوقف انسياب الماء بتحريك الطين لمنتصفه». هكذا بدا لي الأمر. لعله يختلف عن فلج «تغريبة القافر» وإن تشابه اللفظ، ولكن أن تأتي رواية بعد أكثر من ثلاثين عاماً لتعيد لي مشهداً من طفولة منسية في مزرعة تاهت خلف صراعات البناء، واختفت تحت زحف العمائر، فهذا ما لا يقدر عليه إلا الروايات التي كُتبت بقلمٍ بشبهنا، وكلمات نعيشها وتعيش فينا.
تباهى القاسمي في روايته بمفردات شعبية محلية مثل: «الجحلة» ص22 و»الملاق» ص34 و»البخشة» ص79 وغيرها، وجعلنا نسمع أحاديث الشخصيات بلسان عُماني محلي اللهجة، ولم يكتف بالمفردات والحوارات العامية بل طعّم روايته بأمثلة وأقوال شعبية ستبقى طويلاً في ذاكرة قراء الرواية. مثل «صبر ساعة ولا عوق دوم» ص19 و»فقير وشوره دمير» ص163.
على صعيد شخصي، أحب الروايات التي تحوي أمثالاً شعبية، يتحدث فيها الكبار بالعامية، وتجري فيها بعض الأحداث كأنها مشاهد من حكايات جدتي أو بطولات جدي.
ولأن الحديث في رواية «تغريبة القافر» كان عن الماء وإليه فالأشجار بشموخها وجذورها حضرت بلا استئذان. كلما تدفق الماء من السماء أو الأرض نبتت على أرض الرواية أشجار منوعة منها: السوقم، الزام، الغاف، وقفص. لقد زودت طبيعة القرى التي دارت فيها رحى الرواية، القاسمي بهذا التنوع النباتي الأخاذ، الذي جعلني -وربما غيري- نبحث في محركات البحث عن هذه الأسماء، ونتخيل «القافر» يحفر في أرض الرواية تحفه هذه الأشجار.
المرأة في «تغريبة القافر» يطول الحديث عنها، ولكن تبقى مسألة تأخر الحمل، النميمة المفضلة لدى البعض، على قائمة أولويات نساء القرية. حينها تأتي الوصفات الشعبية مع الخرافات الطبية، تحرسهم الدعوات والحسرات. في الرواية نجد أحد تفسيرات تأخر الحمل هو السكن بجوار القبور! فيا من سكنتم بجوار مقبرة، وألقيتم السلام على سكانها صُبحاً وعشياً، هل حُرمتم من الذرية؟ يُعجبني كيف تستطيع المرأة -إن أرادت- إيجاد العذر، وخلق الأسباب، لما يصعب عليها فهمه أو الحصول عليه. عجيبة هي الأمومة في حضورها وغيابها والحرمان منها.
مسألة أخرى تناولتها «تغريبة القافر» وأعجبتني ألا وهي التطريز وعلاقة المرأة بالنسيج والخيوط، والإبر. أزعم أن مسألة التطريز سابقاً كانت صنعة ترفيهية للمرأة، تسعد وتفرح ويخفق قلبها كلما طرزت زهرة أو طائر على وجه النسيج، وكلما تحولت الخيوط بين يديها إلى أشكال تزين اللباس. في الرواية «مريم بنت حمد» والدة القافر كانت تطرز بمهارةٍ ودقة، احترفت التطريز وأرهقت أصابعها وعيناها، فهل سرق التطريز منها قوة بصرها وأصابها بالصداع؟ لم تنتفع بالعلاجات الشعبية أو السحرية، وحده الماء علاجها وخلاصها. ثم تدور دائرة الخيوط والأقدار، وتأتي زوجة القافر لتغزل خيوط الصبر من صوف نعاجها في انتظار زوجها عائداً من الماء! وكأن المرأة التي تغزل وتحيك وتطرز تعرف آلية الصبر، وطريقة توزيعه على الأيام إلى حين الفرج.
أعجبتني رمزية الخيوط على الغلاف، وحضور النسيج، بخيوطه وتطريزه وتعبه وجماله في صفحات الأحداث.
«تغريبة القافر» رواية بدأت بغرق غامض الأسباب في بئر، وانتهت بماء «انطلق بقوة وجرف معه كل شيء». نهاية تجعل من مسألة النجاة أو الموت قراراً تخيليًا للقراء.
أخيراً وبعد انهمار مطر الكلماتِ أقول:
لقد كتب الشاعر زهران القاسمي «تغريبة القافر» رواية بمثابة قصيدة مائية. فيا أيها القراء الكرام، احذروا من الشعراء الذين يتجهون لكتابة الرواية! إنهم يعلمون مناطق الحزن الحساسة فيعزفون عليها كي نبكي نيابة عنهم، يكتبون ما نشعر به، يصورون ما نحلم به، يُدركون من أين تؤكل العاطفة فيرمون مشاعرنا في مقتل.