عبدالعزيز بن علي النصافي
يومًا ما كتبت تغريدة، قلت فيها:
«لا أعرف أحدًا من جيلي (الزملاء، الأصدقاء، الأقارب..) مهتمًا بالقراءة وبالثقافة وبالكتب
اهتماماتهم أو بمعنى أدق معظم نقاشاتهم عن(كرة القدم، عن مشاهير السناب والتيك توك، عن فن القلطة، عن المطاعم، عن العقارات..) «
فعلق أستاذنا الكبير د. عبدالله الغذامي:
«والملاحظة نفسها في كل الأجيال
فالقراءة والثقافة والكتب هي (بعض) من اهتمامات الناس، وتنوع الاهتمامات عريض جدًا
وبعد القوت والحياة الرخية تأتي الاهتمامات متنوعة
على أن الرياضة والقلطة مثلًا هما ثقافة وقراءة، وإن اختلفت نوعيًا»
حقيقة كنت أقصد بالزملاء والأصدقاء الدائرة القريبة مني, الذين ألتقيهم باستمرار, أما النجوم المضيئة في سماء المشهد الثقافي والإبداعي السعودي, فهي واضحة لمن يراقب السماء..
وفي هذه المساحة البيضاء ومضة عن نجمين, أصغر مني وأكبر مني!!.
وهما: (خليف الغالب, وحيدر العبدالله) وكفى ..
كانت أُولى معرفتي بـ (خليف الغالب) من خلال برنامج (ربيع القوافي) والذي كان يعرض على إحدى القنوات الفضائية 2014م ويحظى بمشاهدة جيدة من قبل النقاد والشعراء, فاستوقفني وأنا أتابع الحلقة بإعجاب (اسمه, ولغته, ولهجته, وثقافته, وصغر سنه, وروعة شعره ) فتابعته في تويتر بعد الحلقة مباشرة وتواصلت معه بعد مدة واستكتبته في مجلة اليمامة, وكان بين حين وآخر يشارك فيها بالمقال والقصيدة, وكلاهما إبداعان يشهدان على تميزه..
وفي عام 2017م حضرت له أمسية أقيمت في معرض الكتاب بالرياض, وبعد الأمسية انفردت به في جلسة لم أشعر بطولها ! مرت كنسمةٍ عابرة, ولحظت في تلك الجلسة أنني أمام صديق مختلف يمتلك الثقافتين (الشعبية والنخبوية) يسأل أسئلة مختلفة ويجيب إجابات مختصرة ..لا يستعرض ثقافته ولا يتحدث عن نفسه، كما يفعل بعضهم مع أصدقائهم الجدد !
بل يميل إلى عدم التكلف والسؤال أكثر من الإجابة .. حقيقة دخل قلبي بكامل إبداعه من تلك الجلسة, وأسمعني في نهاية حديثنا رائعة من شعره الشعبي بعدما أشبعنا شعرًا فصيحاً في تلك الليلة وأدركت منذ ذلك الوقت أنه من القلائل الذين أجادوا الشعرين: (الفصيح والعامي), بعد عدة أيامٍ على ضوء شعره الذي سمعته وعلى ضوء البرق الذي يبشر بقدوم الشتاء لمع في ذهني مطلع قصيدة فكتبت: « لاح الشتا مع بارق الغيم يا خليف»
ترددت في إكماله حتى شعرت بأني على ضوء البروق والشوق التقطت بيت القصيدة:
«فرحت فرحة شمري شاف له ضيف
يوم السحابة شبّت البرق حولي»
وبعد إرسال هذه القصيدة الشعبية, بعث إلي «مسودة روايته (عقدة الحدار)» يطلب رأيي فيها، وحقيقة قد وضعني صديقي المبدع أمام امتحان صعب فأنا لست (خالد الرفاعي, ولا سامي العجلان ولا سعود الصاعدي ولا عبدالله السفياني)،»أصدقائنا المشتركين» الذين يملكون ما لا أملك.
فاكتفيت بعد قراءة ممتعة بهذه الرسالة (استمتعت بقراءتها، رواية جميلة تليق بك) كنت أعلم يقيناً أن صديقي لا يريد مني مثل هذا الرأي الانطباعي الذي يقدر عليه أي أحد! بل يريد مني قراءة جادة مكتوبة في صفحات، ولكن «الجود من الموجود» كما يقال..
حقيقة سعدت بنجاحها بعد نشرها و كنت أجني صداها معه وكأنها والله روايتي, وقرأت كل ما كتب عنها, قرأت ما كتبه:
(سامي العجلان, وعبدالله السفياني, وعواض شاهر, وعبدالرزاق الصاعدي) وغيرهم..
وبعد مدة انتهيت من مسودة رواية قصيرة تدور كلماتها حول «الحب والثقافة والقرية والمطر» ورغم أنها لم تتجاوز مئة صفحة فقد قررت عرضها على عشرة مختصين, أحدهم (خليف الغالب) فوصلتني منه في تلك الليلة، رسالة نصية قصيرة ومقطع تتجاوز مدته تسع دقائق، علق عليه د.خالد الرفاعي بعد أن سمعه:
«مقطع مكثف.. صوت من عمق تاريخ الرواية أو ثقافة كتابة الرواية وثقافة تلقيها..»
وعلى مدى الأيام التي توثقت فيها عرى صداقتنا واقتربنا أكثر وأكثر, فلا يكاد يمر أسبوع إلا وتحدث بيننا (محاورة شعرية: مبارزة ذهنية) نقضي فيها جولة ممتعة بين (فتل ونقض وتورية وكناية وتعريض..) ونتدرب على (طواريق) هذا الفن الجميل..
ومن الأسرار:أنني حينما اكتشفت قوته من أول محاورة (واتسآبية) بدأت أستعمل ما يسمى بـ(التمريرة) التي يتقنها شعراء قبائل الحجاز أكثر من غيرهم, وهي تورية خطيرة كما يقول أحد الأصدقاء:»ظاهر اللفظ (نغم) وباطنه (لغم) «
وبعد أن اكتشف صديقي اللطيف (المقالب الشعرية) تحول من (خليف الغالب) إلى (خليف بن دواس) (أحد أساطير القلطة الذي لا يرحم خصمه عندما يستفزه ولا يعترف في هذا الفن بالخطوط الحمراء)إذ بدأ يهاجمني بأبيات نارية, ملغمة بقنابل لا يكتشفها حبيب العازمي ولا راشد السحيمي,معظمها صالحة للشعر, ولكنها ليست صالحة للنشر! لدرجة أنني قلت بعد محاصرته الشعرية لي في إحدى الليالي: «يا خليف يا خليف جعلك هالليالي تلحق خليف» ..
وفي رمضان المنصرم بعث إلي مسودة رواية جديدة عنوانها (زبن المزهاف) يريد رأيي أيضًا!
وأقسمت له على ضوء بريق الفجر بأنني لا أتذكر أنني انسجمت مع رواية كانسجامي في هذه الليلة الرمضانية معها؛ وكأنني أشاهد فيلمًا سينمائيًا لرواية عن الصحراء وعوالمها؛سرد مدهش ودقة عجيبة أتقنها من عاش طفولته بين العشب والنجوم .
وحمدت الله أن الله رزقني بصديق من جيلي من مواليد 1408حقق ما لم أحققه! صعد حرف (الدال) إلى مقدمة اسمه2020م ,وحاز جائزة شعراء شباب عكاظ 2016م وفاز ديوانه (سماوات ضيقة) بجائزة جازان 2019م وما زال يقفز من سماء إلى سماء..
أما النجم الآخر، فهو (حيدر العبدالله) الذي عرفته من مقالة بديعة كتبها الشاعر العملاق جاسم الصحيّح 2013م، عدت إليها واقتطفت منها:
«-وُلِدَ هذا الشاعر على قمَّة إبداعية عالية، ثمَّ ابتدأ بتسلُّق الفضاء إلى ما هو أعلى..
-تكمن موهبةُ هذا الشاعر الملهم -أولًا- في الوعي الشعري الذي يمكِّنه من اكتساب المعرفة العامة وتحويلها إلى معرفة جماليَّة بمهارة فائقة, وكأنَّه قد اختزل خبرات سنين طويلة عبر هذا الوعي وهو ما يزال في العشرينات من عمره..»
بدأت أتابعه بعد هذه المقالة، وأثبتت الأيام أننا أمام ظاهرة إبداعية فريدة, وشاعر ذهبي مختلف في عصر التشابه, يدور الجدل حول قصائده ويزيده (التنمر) شعرًا «كعودٍ زاده الإحراق طيبا» وكم هو صادق حينما قال: «والله ما أوذي شاعر مثلما أوذيت».
هذا الشاعر الصغير في سِنه (مواليد 1990) الكبير في تجربته, الحائز على عدة جوائز، لم يثبت فقط أنه شاعر عبقري فحسب, بل أثبت لمن قرأ كتابه الرائع (مهاكاة ذي الرمة) أنه باحثٌ رصينٌ, وناقدٌ نابهٌ, ومدهشٌ بالتقاطاته وتحليلاته ..
وفي حلقة برنامج (الليوان) التي استضيف فيها؛ واجه حيدر أسئلة المديفر النارية, وصمد أمامها (بثقة وثقافة وشعر) فأعجبني أكثر فأكثر..
والشيء بالشيء يذكر ؛ هذا (الليوان) مع كل ضيف وفي كل محور يأسرني فيه (عبدالله المديفر) بقوة إعداده، وسرعة بديهته، وحضوره المتوهج, وقدرته على إدارة الحوار بأسئلته التي «يشعلل» بها برامجه الناجحة (لقاء الجمعة, في الصميم, في الصورة, الليوان) وقبل كل شيء يعجبني برقيه الدائم وأخلاقه العالية،
وبالمناسبة هذه البرامج لا أتذكر أنه فاتني منها حلقة إلا ما ندر، ومع هذا فإنني لا أخفيكم أنني أخشى على أصدقائي الظهور معه؛ لأني أعد ذلك (مغامرة) وسلاحًا ذا حدين، فإذا كان النجم الإعلامي (علي الظفيري) الذي قضى عمره تحت أضواء كاميرات (القناة الأشهر) قال في بداية الحلقة التي استضافه فيها قبل سنوات: «برنامجك ما خلاني أنام, أشعر بخوف لأول مرة, إذا سألتني شرق وجاوبت غرب فلا تستغرب!».
وما زال الكاتب الجريء (محمد السحيمي) يسمي السنة التي استضيف فيها (سنة غزوة المديفر) وكل من أعرف من الأصدقاء يشعرني بعد الحلقة أنه خرج من معركة..
أخيرًا:
في زمن (الوباء العالمي: التفاهة) جديرٌ بنا أن نحافظ على نجومنا التي تطل علينا من السماء, وحري بوزارة الثقافة أكثر من أي وقت مضى رعاية من ثبت إبداعه وشهد له بالتميز من الجيل الجديد بالدعم المالي والمعنوي, وتحقيق متطلباته: (التفرغ الإبداعي, طباعة أعماله, ترجمتها,..)