د.نادية هناوي
جرّب الشعراء العرب الرومانسيون نظم الشعر المرسل والمنثور واستعملوا بحوراً مجزوءة وأوزاناً مهملة، لكنهم لم يواصلوا تجريبهم أو بالأحرى لم تكن أرضية تجريبهم بالتامة غنائياً ولا المهيأة طربياً. وشتان بين غناء يدفع إلى التجريب والابتكار في القصيدة دون مداومة وبين غناء يدفع إلى التجريب والابتكار في القصيدة مع المداومة والمطاولة والإصرار على نظم قصيدة بشكل ومحتوى غنائيين مبتكرين.
وما ظهر شاعر جرب نظم الشعر باستعمال أوزان مهملة وكان يهوى الطرب ويعزف على العود ويدرس موسيقاه دراسة علمية وفي الآن نفسه يداوم على تجريب الأوزان إلا عام 1947 حين كتبت شاعرة شابة هي نازك الملائكة شعراً لا يتقيد بشكل الشطرين، وسمت هذا الشكل بالشعر الحر الذي صححه بعض النقاد فيما بعد بقصيدة التفعيلة لكن نازكاً كانت تنطلق من منظور غنائي فيه البحور مجزوءة والأسطر حرة في تفعيلاتها فلا تتقيد بالشطرين.
والأهم من ذلك أن نازك الملائكة بعد نشرها قصيدة ( الكوليرا) داومت ـ بخلاف السياب الذي زامنها بنشر قصيدته «هل كان حباً» ـ على تحديث الأوزان مستلهمة التاريخ الطويل لعلاقة الشعر بالغناء، فكان أن ظهر ديوانها( شظايا ورماد) في صيف 1949 وفيه خمس قصائد من «الشعر الحر». وبذلك توجت ريادتها حركة التحديث بينما ظل السياب على واحدته أي قصيدة ( هل كان حباً) ولم ينشر غيرها إلا بصدور ديوانه ( أساطير) المنشور عام 1950 وهو العام نفسه الذي نشر فيه عبد الوهاب البياتي ( ملائكة وشياطين) ونشر شاذل طاقة ديوانه (المساء الأخير).
وإذا كان عام 1947 قد شهد ولادة القصيدتين أعلاه، فإنه لم يشهد أي تجاوب أو تخالف من لدن النقاد أو الشعراء البتة بينما أثار ديوان ( شظايا ورماد) 1949 ضجة في الصحف العراقية توزعت بين السخط والسخرية والاستجابة والترحيب.
إن حيازة نازك الملائكة على الريادة ليست بالنظم الشعري والتأليف النقدي حسب، بل هي أيضاً بالمداومة أولاً وبقصدية التجريب ثانياً وبمزاولة الموسيقى من خلال عزفها على آلة العود ثالثاً تصميماً وإرادة، وهو ما انفردت به عن سائر الشعراء فكان نزوعها غنائياً بحتاً وولعها الموسيقي موجهاً لوجه القصيدة وقفاها. فأما الوجه فتقاليد الشعر الوزنية وأما القفا فأنغام الطرب الموقعة موسيقياً على أوتار العود بمقامات نغمية خاصة.
وليس هذا بالغريب لأن نازك الملائكة تخرجت عام 1949 في معهد الفنون الجميلة بعد أن قضت ست سنوات في دراسة الموسيقى والتخصص في العزف على آلة العود بإشراف أستاذها الموسيقار محي الدين حيدر وكان يلقب بالشريف، وعن ذكريات دراستها في المعهد قالت نازك في ( لمحات من سيرة حياتي وثقافتي، مجلة الجديد، العدد السابع، 1995 ):( العزف على العود كان أمنيتي منذ صغري..ولهذا الفنان طريقة فريدة في العزف والتدريس ..وله في العراق تلاميذ معروفون من الموسيقيين كسلمان شكر وجميل بشير.. وكنت أجلس في صف العود مسحورة وكأني أستمع إلى صلاة وكان الشريف يؤكد أن لي مسمعاً موسيقياً حساساً وموهبةً ظاهرةً ولكنه كان خائفاً عليّ أن يجرفني حبي للشعر ويبعدني عن الموسيقى رغم أنني ما زلت حتى اليوم أعزف لنفسي وأغني ألحان عبد الوهاب وأم كلثوم وفيروز وعبد الحليم ونجاة .. ولعله كان ينتظر أن أكون عازفة مشهورة ومؤلفة ألحان).
وكانت نازك في أثناء تعلمها فن الموسيقى معجبة بألحان تشايكوفسكي وتعلمت المقامات الشرقية، ولحنت من شعر أمها (نشيد العرب) وأنشدته طالبات دار المعلمات الابتدائية وكان اللحن على نغم النهاوند ولكنها ـ كما يذكر الناقد عبد الجبار البصري في كتابه نازك الملائكة الشعر والنظرية، ص50ـ52 ـ لم تظهر عازفة على العود أمام الجمهور إلا في الولايات المتحدة الأمريكية في حفلة أقامتها جامعة وسكونسن سنة 1955 وكانت طالبة فيها آنذاك وإذا كانت نازك الملائكة قد أخفت ميولها الغنائية والموسيقية مجتمعياً فإنها أعلنتها إبداعاً شعرياً.
ولقد عززت نازك هذه الدراسة الأكاديمية للموسيقى بالدراسة النقدية للأدب، أولاً عام 1951 حين سافرت للدراسة في جامعة برنستون الأمريكية وهناك أتيحت لها فرصة التعرف على كبار النقاد في الولايات المتحدة مثل بلاكمور والن وارنر وديلمور شوارتز وآلن تيت. وثانياً بما كتبته من أبحاث فكرية ونقدية حول الغناء والأغنية العراقية، وفيها كشفت عن دراية معرفية بواقع الغناء العراقي وخصوصياته النغمية والإيقاعية.
فنشرت عام 1957 في العدد الثامن من مجلة الآداب البيروتية بحثاً بعنوان ( شخصية الآخرين في الأغاني العراقية) وفيه أكدت أن صورة الفتاة اليتيمة تنتصب في الأغنية العراقية شامخة وهي تردد الحسرة وكل لحن فيها منذور للثأر من الواشي والنمام والحسود وحافر البير والعاذل والظالم. ولا تقدم الأغنية شخصية المحب إلا وشخصية العذول أقوى منه سطوة. وحللت نازك هذه الظاهرة نفسياً واجتماعياً وتوصلت إلى نتائج، منها أن العذول محب فاشل في الأصل وهو شخص مهمته الإيذاء كقوة شريرة تقف للمحب بالمرصاد بالزجر واللوم، ومنها أن الضمير الاجتماعي صارم، لذا يقف المجتمع مع العذول ضد المحب.
ونشرت عام 1960 في العدد الثاني من مجلة الآداب بحثها المعنون ( العطش والتعطش في الأغاني العراقية) ودللت فيه على وجود علاقة فطرية بين الإنسان العراقي والأرض، يدفعه إلى الإنشاد ملبياً بالأغاني الدارجة حاجة ملحة. وحين مثلّت نازك على ذلك استحضرت صورة المرأة العراقية وهي تعبر بالشعر عن ضنك حالها تارة كفتاة ريفية تتمنى أن تصير فنجان قهوة: ( كون انقلب فنجان بيد القهوجي/ وأوصل لحلق هواي / وأنتحب وأبجي) وكحبيبة سمراء تقول: ( نخل الرمادي يقول طرتني سمرة) وتارة أخرى كعاشقة تتمنى أن تكون نجمة صبح وتسقط على المحبوب وأخرى تتساءل: ( شلون أنام الليل وأنت على بالي ) مكررة مفردات النهر والسفن والشاطيء والشط وغيرها. وبذلك تكون نازك قد تنبهت إلى ما تنبه له مظفر النواب فيما بعد من أن المرأة العراقية هي الشاعرة التي لها دورها في الأغنية العراقية بوصفها هي الفاعل الغائب الذي لا يعلن عن نفسه في الغالب. وقد عكست الشاعرة لميعة عباس عمارة لاحقاً هذه الحقيقة فكتبت أشعاراً باللهجة الشعبية صارت فيما بعد أغاني محببة ومعروفة ومنها أغنية:( اشتاقلك يا نهر) التي غناها المطرب فاضل عواد.
إن شأن نازك الملائكة شاعرة وعازفة وناقدة وأكاديمية شأن فريد، فلم يمتلك مثله من جايلها من الشعراء العرب والشواعر العربيات، هذا فضلاً عن أن ما قطعته من شوط في تحديث النقد العربي لا يقل هو الآخر عن الشوط الذي قطعته في تحديث الشعر بوصفها شاعرة وافرة العطاء ومتدفقة الفاعلية تجمع الشعر بالنقد وبالغناء وبالتاريخ والسياسة ثم تصهرها كلها ما بين دفتي دواوينها من خلال عودها المتواري خلف سطور قصائدها. فما عرفت لذة ولا راحة إلا والعود محطة راحتها مكتفية برصيدها من صراع أجيال حامٍ ومتشظٍّ، اشتعل وانطفأ في مبارزته لها وما مسَّ سطراً من أسطر تفعيلات حياتها الموقّعة بأنغام العود وخفيف الأوزان ومجزوئها.
وإذا كانت الملائكة قد تحدثت في كتابها (قضايا الشعر المعاصر) عن الجذور الاجتماعية لحركة الشعر الحر وما تتسم به الشخصية العربية من تماسك وبحث عن الأصالة ونزوع إلى الواقع وحنين إلى الاستقلال ونفور من النموذج وإيثار للمضامين، فإنها تطرقت أيضاً إلى الظاهرة العروضية في الشعر الحر، وعدتها ظاهرة غنائية، فأتت قواعد الأذن العربية بموسيقاها من العروض. واستطاعت نازك أن تأتي بمزيد من هذه القواعد ومنها أن بحور( المتدارك والرجز والكامل والسريع) بحور صالحة للكتابية خلافاً للبحور الخليلية الأخرى التي تظل سماعية ومنها أن من يكتب الشعر الحر ببحر الطويل يفشل، ومنها أن الموسيقى التي هي قوام كل شعر( تضعف بوجود التفاوت في طول الأشطر بحيث ينبغي للشاعر أن يسندها ويقويها بالمحافظة على الوحدة التشكيلية وبذلك يستطيع الشطر الحر أن يرن ويبعث في وعي السامع لحناً ويخلق له جواً شعرياً جميلاً ) (من كتابها قضايا الشعر المعاصر، ص77.)
وعلى الرغم مما طرأ على حياة نازك بعد عام 1958 من تغييرات وظروف بسبب سقوط الملكية وقيام الجمهورية، فان إخلاصها لشعرها الحر ظل حراً في بيروت أو البصرة أو الكويت وميولها ظلت غنائية حتى إن كتبت وحاضرت في الأخلاق والقومية والمجتمع والحضارة وغيرها.
وبقيت للماضي في ذاكرتها صور مشرقة بإشراقة تلك العلاقة الأزلية بين الشعر والغناء، وعن هذا الماضي تقول:
عندما انبعث الماضي
ذلك الصوت الذي مر على سمعي أمسِ
....
كان حباً تائهاً في أمنياتي
ثم حطمت على ذكراه قيثاري وكأسي
عندما ضيعته تحت الضبابِ
ولن تضيع ذكرى نازك الملائكة بين قول مكرور يشرك في الريادة معها شاعرين وثلاثة وأربعة وبين دعاوى زمنية تنسبها لجيلية أربعينية وخمسينية أو تقوقعها في أنثوية بلا نسوية وجنوسة تنطق بها ذكورية، ما أنصفتها في حياتها ولا في مماتها، بل إن مؤسسات الثقافة اليوم لا تعزم أو في الأقل لا تفكر حتى في إقامة نصب لها يليق بها ويخلد ذكراها ويشهد على ميراثها الشعري الذي عمره هو عمر القصيدة وغنائيتها التي جمعتها في شعرها الحر بحرية تامة.
** **
- جمهورية العراق