د.حسن مشهور
إحدى جماليات الأدب، هي تقديمه للتاريخ في قالب سردي تكون شخصياته خيالية، وتفاعلهم الذاتي مع المكونات البنيوية البشرية الأخرى في المخيال السردي هو مختلق بشكل هو أقرب ما يكون للكُلّية، إلا أن هذا التفاعل نجده يتقاطع مع مفصليات حدثية تاريخية، ويتقارب معها في أوقات أخرى، ليتشكل من مجمل هذا التفاعل عملًا أدبيًا يدفعنا لتأمل وقائع التاريخ، ويدعونا لإعمال عقولنا فيها.
بعبارة أخرى هي محاولة جادة من الكاتب كي ننفض عنا غبار التلقي التاريخي والتسليم بما صدر حيال الحدث التاريخي من حكم، وأن نجرب مرة أخرى النظر العقلي لهذا الحدث التاريخي من زوايا أخرى كي نرى ما لم يرد لنا أن نراه.
وهذا الأمر قد لا يكون هو ما يمارس كقصدية، ويراد به من قبل الكاتب، إذ في بعض الأحيان قد يتناول المؤلف مفصليات تاريخية ويعيد قولبتها وتقديمها سرديًا، سواء عبر عناصر البشرية الحقيقية أو المتخيلة، فقط كي يقدم الحدث أو المفصلية الزمنية وفق ما تلقاه ومرر إليه تاريخيًا.
ويمكن القول بأن أول من اتخذ شخصيات سردياته من نماذج طبقات وأجيال تاريخية متعاقبة، هو الكاتب الفرنسي الشهير»بلزاك»، وتحديدًا في مؤلفه الشهير «الملهاة الإنسانية». وهو الأمر الذي قد أثر في أسلوبية كتاب وأدباء آخرين أتوا من بعده، أمثال «إميل زولا»، الذي أرّخ في عشرين قصة لأفراد متعاقبين من أسرة خيالية أسماها «روجون ماكار». وأيضًا، «جول رومان»، الذي قد سردية تاريخية بقالب قصصي تناول فيها الحياة الفرنسية، ثم الأوروبية. ومن ذلك مجموعته القصصية التي أسماها «يوحنا كريستوف»، وقام بنشرها من العام 1904م، إلى العام 1912م. ليقوم بعد ذلك بجمعها في عشرة أجزاء.
هذه الممارسة الأدبية، قد انتقل أثرها ليصل إلى جغرافيات أوروبية أخرى. وأكثر من ذلك، فقد امتد ليطال عالمنا العربي، وارتسم ذلك في تأثر الروائي الراحل نجيب محفوظ بها، وانعكس بشكل دقيق في ثلاثيته الشهيرة، وأعني بذلك «بين القصرين»، و «قصر الشوق»، و»السكرية»، التي اعتبرها اتحاد الكتاب العرب أفضل رواية عربية في تاريخ الأدب العربي.
إن هذا التأثر والمتمثل في وجود تجديد أدبي يتناول الحدث التاريخي في قالب روائي يدعو القارئ ليس فقط للتلقي الظاهري، وإنما لإعمال العقل الناقد في مجمل وواقع الحدث، لم يقتصر في تقديري على الأدب العربي في شكلانيته المعلنة والممارسة. وإنما الأمر قد طال الأدب العامي أيضًا، إذ إن رباعية السيناريست المصري الراحل أسامة أنور عكاشة المسماة «ليالي الحلمية»، هي أيضًا تقبع في دائرة التناول الأدبي للحدث التاريخي الممتد عبر أجيالٍ متعاقبة. فمن خلال التتالي العرضي لمشاهد المسلسل، تم تناول تاريخ مصر الحديث انطلاقًا من ملكية فؤاد الأول وابنه الملك فاروق، مرورًا بثورة 23يوليو عام 1952م والعصر الناصري بكل أحداثه وتداعياته من قانون الإصلاح الزراعي وتأميم قناة السويس ونكسة 67، ووصولًا للمرحلة الساداتية التي كان الانفتاح الاقتصادي وماجره من عواقب سلبية على الاقتصاد المصري هو الحدث والمشهد الرئيس للمرحلة.
إن عملية تقديم التاريخ من خلال البرامج المرئية وخاصة المسلسلات المتلفزة منها، تمثل ممارسة جذب للمشاهد وتسهم في تعزيز الفهم الحدثي للمفصلية التاريخية، على الرغم من تقديم التاريخ وفق رؤية فنية ذاتية سواء من قبل كاتب القصة والسيناريو أو المخرج. وهو أمر جيد عندما نرغب في تقديم التاريخ للأجيال الشابة التي لم يعد الغالبية منهم يهتم بالقراءة التاريخية وإنما يوجه جل جهده صوب الأعمال الروائية أو برامج التواصل الاجتماعي وغيرها من المشتتات البرمجية.