استلقى الكاتب الكبير على ظهره، ينتظر قدوم النوم على أعصابه المرهقة، ظل يتأمل سقف غرفته المزخرف بالنقوش الإسلامية العريقة، لكن هيهات أن يأتيه النوم.. لقد هرب من عينيه هرب الجبان من أرض المعركة..
تذكر أن لديه خاتمة لروايته الأخيرة لم يتمها.. فقرر أن ينفض عن عينيه غبار النعاس، ويستعد لمعركته الفكرية الحاسمة.. فكما أحسن سبك الرواية في بدايتها.. عليه أن يجيد تطريز خاتمتها بالشكل الذي يليق بإبداعيته الجديدة..
اقترب من باب مكتبه.. سمع صوتاً داخل المكتب.. لكن من عساه ذلك الشخص الذي يتجرأ باقتحام محرابه الفكري.. فتح الباب بسرعة.. وصدم من المفاجأة.. إنها امرأته صوفيا تفتش بين أوراقه.. لكن ما عساها تبحث بين كومة إبداعاته المتناثرة.. هذه ثالث مرة يضبطها وهي متلبسة في جرمها المشهود!!
- ما الذي تفعلينه هنا؟!
تصلبت الكلمات على شفتيها.. واعتراها شيء من الأسف.. أما وجهها فقد اكتسى بحمرة الخجل.. لم ترد على سؤال زوجها لأنها لا تملك الإجابة..
أما هو فجلس على مكتبه.. وأخذ نفساً عميقاً.. ثم أخذ يرتب أوراق روايته الجديدة.. حاول أن ينسى الموقف لكن دون جدوى.. لقد تحول سلوك زوجته في الفترة الأخيرة إلى كابوس عنيف يقلق إبداعاته وكتاباته..
حاول أن يفتح معها الموضوع لكن لا فائدة ترتجى من الحوار العقيم معها.. فهو يرى أن عقليتها ساذجة.. لا ترتقي لسمو ومكانة زوجها الأدبية.. فضاق ذرعاً منها.. ولكن ما عساه أن يفعل.. هي شريكة حياته التي قضى معها عشرات السنين..
قبل عدة أيام، زاره أحد الكتاب الروس في مكتبه.. فقام تولستوي بإغلاق باب المكتب.. فالحديث هنا ذو شجون.. حوار من العيار الثقيل.. وكلام بين عملاقين في الأدب الروسي.. وحديث شيق يتعلق بهموم الكتابة وقضايا الثقافة والأدب.. وفي خضم الحوار الكبير أحس تولستوي أن أحداً يتلصص عند الباب ويسترق السمع.. وقد عرف لاحقاً من أحد الخدم أن صوفيا تنظر إلى زوجها وضيفه من ثقب المفتاح..
ما الذي حدث لصوفيا حتى تراقب زوجها بهذه الصورة؟، لا شك أنها لاحظت تغيرات في شخصيته وسلوكه، لقد تحول إلى شخصية روحية زاهدة في الحياة، لم يعد تولستوي ذلك الإنسان الذي تعرفه وأحبته من قبل، ورزقت منه ثلاثة عشر ابناً وابنة واحدة، لقد عاشت حياتها بمثابة السكرتيرة ومديرة الأعمال، فنسخت بخط يدها ملحمته الروائية الحرب والسلام عدة مرات، وهذا أنموذج فريد لمدى صبرها وحبها لزوجها..
تدعي صوفيا في مذكراتها أنها عجزت عن فهم سلوك زوجها المتغير بعد أن فاقت شهرته آفاق المعمورة، فقد أصبح يشعر بأنه متدين مثل الأنبياء، وأن أعماله كلها مكرسة للخير، وترى صوفيا أنه في الحقيقة كان يريد شيئاً واحداً فقط هو الهيمنة، وهذا يعكس صورته المتحولة الجديدة ذات التعصب لرأيه!!
استفحل الأمر مع اقتراب تولستوي من سن الثمانين، فقد كان يهدد صوفيا باستمرار بتركها وترك الأسرة والعيش على الطراز البوهيمي أواخر عمره، فلم تجد الزوجة بداً من تهديده بالانتحار على طريقة آنا كارنينا بطلة روايته الشهيرة، وعندما لم تجد أذناً صاغية منه نفذت تهديدها بالفعل وقفزت إلى إحدى البحيرات محاولة التخلص من كل عذابها، لكنهم تمكنوا من إنقاذها، فقالت: أريد أن أغادر العذاب لأنني لم أعد أتحمل هذه الحياة الرهيبة ولا أستطيع أن أرى أي أمل.
ولو بحثنا عن صورة أخرى لصوفيا.. نجدها وقد اشتعلت نيران الغيرة في قلبها.. وتأجج الشك في صدرها العاشق الولهان لزوجها.. هي تريده لها وحدها فقط.. لا تريد لهذه الأقلام أو تلك الأوراق.. أو لهؤلاء الكتاب والمبدعين أن يشاركوها في زوجها الذي تحول إلى أيقونة أدبية عالمية.. لقد سأمت من حالها في بيتها.. هي تريد أن تعيش حياة زوجية رتيبة.. لكن قدرها ساقها لتكون زوجة لصاحب الحرب والسلام، الإبداعية الروائية التي طافت الآفاق في زمنها.. لقد ملت من الصحفيين والمعجبين الذين ملأوا بهو قصرها المنيف بصورة شبه يومية.. لقد فقدت خصوصيتها كأم وربة منزل.. وبدأت تفقد شيئاً من عقلها وهي ترى منزلها يتبدل إلى فندق يقصده عشرات السياح من أنحاء العالم كافة..
كان بإمكان تولستوي أن يحيا حياة الترف التي يعيشها الأثرياء في عصره.. قصر منيف وعامر، وحشد من الخدم يأتمرون بإشارة منه.. وزوجة حسناء.. وذرية من حوله.. لكن قلبه يختلف عن تلك الأفئدة.. ففي حناياه إحساس مرهف تجاه الجوعى والمهضومين من حوله.. أما عقله فهو آلة إبداعية لا تنضب ولا تتوقف عن عطائها العبقري.. وبهذا القلب وذلك العقل تحول تولستوي إلى ظاهرة إبداعية عالمية.. فأصبح قصره الكبير كعبة يؤمها الصحفيون والكتاب والمفكرون والإعلاميون وحتى المتطفلون الذين استغلوا طيبة ذلك القلب الكبير!!
وأخيراً.. قرر تولستوي الهروب منها ومن عالمها الضيق.. كينونتها الذهنية بسيطة لا تتحرك إلا داخل إطار أمومتها وطبع غيرتها وحرصها على الفكر الأرستقراطي الموروث عن أسرتها.. لم تستطِع تلك الكينونة العقلية أن تتحرر من قيود الإرث الذهني والثقافي.. فبقيت أسيرة لتلك القيود الجامدة.. فلم تدرك أنها زوجة لعبقرية متدفقة تذهل العالم حينها بإبداعاتها الساحرة.. ولم تعِ أن قلم زوجها يحظى باهتمام العالم برمته..
وهنا يختلف معنى الإدراك.. فشكلياً هي تدرك ذلك تماماً.. لكنها عجزت أن تتماشى مع ذلك الوضع القائم، أو تتعايش مع وضع زوجها الحالي.. فتحولت حياة الزوجين إلى حالة تناقضية وتنافرية.. لم يعد أحدهما يتفهم الآخر.. لقد أصبحا بالفعل على طرفي نقيض..
لقد أعلن تولستوي مع نفسه ألا حل مع صوفيا سوى الفرار.. فقط الفرار.. لكن إلى أين.. إلى المجهول.. هكذا عبرت تلك الفكرة السريعة في رأسه.. وفي إحدى تلك الليالي القارسة البرد.. ارتدى لباس الشتاء.. ولف معطفه الطويل على رقبته.. وغطى رأسه بكوفية كبيرة حتى لا يعرفه أحد.. ولم يأخذ معه إلا قلمه وبضع أوراق.. ومشى إلى محطة القطار.. وعندما سأله الموظف إلى أين.. رد تولستوي.. إلى أبعد نقطة.. وهناك قرب ثلوج سيبيريا.. وقف القطار.. ونزل تولستوي في تلك القرية المتواضعة وهو في سن الثانية والثمانين من عمره..
كان هربه أشبه بالفرار نحو المجهول.. لكن صقعات البرد اللاذعة أصابت رئته بالتهابات حادة.. وهناك على كرسي حديدي صلب.. جلس الكاتب العظيم.. واستسلم لأيامه الأخيرة.. عرفه الناس رغم كل محاولات التنكر التي بدا عليها.. فانتشر خبره في الصحافة الروسية.. فقدمت زوجته صوفيا إلا أنه رفض استقبالها.. ورفض استقبال الصحفيين والمسؤولين.. ولم يستقبل سوى الطبيب..
لقد أراد تولستوي أن يموت في هدوء وسلام.. بعيداً عن صخب الإعلام والصحافة.. وبعيداً عن تدخلات زوجته.. وهذا ما حدث بالفعل.. أما زوجته فعادت إلى قصرها المنيف وهي حسيرة أليمة من نهاية زوجها معها.. وقد شنت عليها أقلام الكتاب هجاءات مقذعة وأنها لم تحسن التعامل مع عبقرية زوجها.. حتى ابنتها الوحيدة ادعت أنها السبب الرئيسي في وفاة والدها.. استسلمت صوفيا لصياط الناس وألسنتهم المقذعة.. وحاولت في مذكراتها أن تجد لها أعذاراً لها كأم وكزوجة تحمل جينات الأنثى.. وبعد ثماني سنوات.. لحقت صوفيا بزوجها.. وغادرت الحياة وهي مثقلة بالحسرة من كلام الناس.. وهنا انتهت حياة زوجية بدأت بالحب المفعم بين الزوجين.. وانتهت بمأساة التناقض والتنافر.. وعدم فهم الآخر..
** **
- عبدالله العولقي
@albakry1814