يولد وهو لا يكاد يعرف سوى الوجه الذي يبتسم أمامه
كلما عاد من عالم الأحلام
الوجه الضبابي ذو الملامح الحادة والكثير من الأسنان
الكثير من القبلات واللمسات،
ثم يليه تدفق السائل اللذيذ
يعرف أنه يريد أن يأكل، يمتص بشراهة هذا السائل الأبيض الدافئ،
يعرف أيضاً أنه الوحيد الذي يستطيع إسكات جوعه
-الجوع... لا يعرف بعد ماذا يعني الجوع ولكن هناك ألم يشعر به في جسده، ألم لا يستطيع تحديد مكانه ولكنه يسكت حين يمتص الحليب
هذه هي الفكرة الأولى التي تظهر، الفكرة التي تنفجر قبل كل شيء آخر
فكرة الامتلاء «الشبع»
ليسكت هذا الألم، ليعود للأحلام من جديد
ماذا كان يرى في حُلمه؟ أهو المستقبل؟ أهو الرب؟ الطعام؟ العائلة؟ النجوم؟ الجنة؟ أم رحم أمه الضيق والمظلم؟
ماذا يرى في كل تلك الساعات التي ينام فيها باستمرار؟
ويكبر خلالها ما بين يقظة وحلم وحليب الأم؟
***
لقد بدأ يُفكر الآن
يرصد الحركات، الضحكات، الأحضان
يميز الحب بهالة تحيط بكل من يقترب منه
يرى المشاعر الأخرى يرى ذبذبات نتنة
لها رائحة ينفر منها
عرف البكاء والضحك وكل ما يتلوى في مخاض خروجها
التكلف، المجاملة، اليأس، الحقد و........
يعرفها فور خروجها، لأن الهالة تتبدل
تتلون وتثور في بعض الأحيان لتُخرج من فم هذا الطفل صرخات رعب لا تهدأ بسهولة
ولكن يريد أن يعرف أكثر،
يلمس الأشياء من حوله، يتذوقها
ينصت للأصوات يميزها ، يراقب التلفاز والهاتف
ثم ينطق أخيراً « بابا، ماما»
ثم تليها الكثير من الكلمات
تنساب كالنهر إلى ما لا نهاية،
يفكر بقدميه يريد أن يمشي
ثم يركض ثم يرقص هذا الطفل السعيد
***
يكبر ويكبر بسرعة لا يمكن للأم أن تبطئها
ولا يمكن للأب رؤيتها
بسرعة لا تُحس بل تُعاش على عجل،
يكبر وهو يدس فكرة تلو الأخرى تحت وسادته الصغيرة
فكرة تظهر من الفراغ يغذيها لتنمو،
فكرة أخرى تموت لأنها لم تجد الجواب فيبتلعها العالم.
كل ما حوله مدعاة للفضول
وفي طريق الحياة
في الطريق نحو كل ما هو غريب ومريب
تطفو على سطح رؤياه مشاعر أخرى
مشاعر لا تُقهر
يتلقاها بشغفٍ غريب
ونشوة اللحظة تكاد تكون أبديه
يمضغها برفق، يتذوقها، يحبها، يعشقها
يخبئها تحت الوسادة
ولا يعود ليلمسها لا يستطيع أن يعرف كيف يغذيها
ولكنه يشعر بها في داخله
ليست كالجوع بل أشد حدة، وألمها أكثر وضوحاً من أي مشاعر أخرى
لا يستطيع وهو شاب أن يصنفها تحت مخاض الضحك والبكاء بل يراها أشد عمقاً أكثر تعقيداً
شيء يشبه الاحتراق، يشبه لمس النار
يشبه التآكل والضمور
يشبه النسيان والفتور
يصنفه تحت مخاض الحب
ولكن طبطبات الأم لم تعد تفيد،
ونفخاتها تلك على أصابعه كلما لسعته حرارة الماء الساخن
لم تعد تُشفى، والجرح يغزو من الداخل جسده الحي الضئيل
وهو لا يدرك بعد ما هذا الذي يحدث.!
***
يكبر الشاب باستمرار دون أن يستطيع التوقف.
فهو يريد أن يُشفى، أن يكتشف مكان النزف ليوقفه
ليداويه ويحرره.
يكبر، وهو ما يزال يبحث ليعرف أين وكيف جاء ذلك الجرح الغائر الجرح الذي يحيره ولا يعرف مصدره،
يكبر وتلك المشاعر من مخاض الحب،
تتكاثر بسرعة في داخله كورم خبيث.
خبيث.. ها هي كلمة أخرى تظهر في شبابه
كلمة يصنفها تحت مخاض النسيان لأنه يرى الحب أبيض اللون، يراه طاهر
ولأنه يعرف بأن النسيان شر لا بُد منه
شرٌ يسلب منه لقطاته اللذيذة الحية
يسرق منه أحلام الطفل الذي كان.
***
يكبر، ويدركه الوقت،
لم يعد يركض الطفل
ولكنه بدا كهلاً في الخامسة والأربعين
بجسد ضخم وملامح تائهة
وفي صدره شيء من الطفل
شيء من ضياع ، من عدم الفهم
يرقد كل ليلة وهو يصطاد من فراغ الغرفة
أحلامه التي كانت، أحلام المهد الصغير
لا يستطيع تفسير الظلام السرمدي الذي يغرقه
ولكنه بداخل ذلك الظلام يشعر أكثر مما كان
يشعر بقوة خفية وضعف شديد.
** **
- عُلا الحوفان
Twitter: @ola29x