وقف ينظر إليها مشدوه القلب مع أنها تجلس بكامل حجابها. رد التحية واسترسل في حديثه العابر، أما قلبه فقد استرجع لحظات طفولته معها.
ومن شدة ما سيطرت تلك المشاعر عليه قال كأنه يوجه الحديث لأمه بينما هو في الحقيقة يخاطب تلك التي ملكت قلبه منذ الصغر.
إن تلك السنين لم تغير مكانة جيراننا في قلوبنا يا أمي
لتستأذن هي على استحياء ويكاد أن يهتف هو لا تذهبي ولكن هتافه ذاك لم يتجاوز جدران قلبه، أما عيناه فقد واصلتا توسلهما الصامت وهما تشيعانها حتى توارت عن الأنظار ليعيده حديث والدته إلى دائرة الواقع بعد أن غاب في عالم حبه طفولي ذاك وهي تقول:
أتعلم أنها انفصلت عن زوجها لأنها عقيم مسكينة، الحمد لله أن أهلها لم يوافقوا على زواجك بها.
أثارت كلمات أمه تلك غضبه، وغضب المحب اليائس كالرماد الذي يخفي تحته جمرات حارقة مهما طال بها الزمن إلا أنها تلتهب رغم خمودها مع أول لفحة هواء، وكأن كلمات أمه هي لفحة الهواء التي ألهبت جمرات كبريائه المجروح وهو يسترجع تلك اللحظة، فلقد كانت النعرة القبلية هي من حالت دون زواجه بشيخة، وغضبه ذاك هو ما دفعه إلى أن يصبح على ما هو عليه الآن مهندس معماري مرموق مالك لأكبر شركة عقارية عالمية، وليعيش تلك السنوات دون زواج، وهذا الغضب أيضاً هو من يدفعه الآن لاتخاذ هذا القرار الذي سيكون الشرارة التي ستغير حياته وتقلب حياة شيخة رأساً على عقب.
وما هي إلا أيام قلائل سافر بعدها سلطان للخارج لقضاء أعماله وإبرام بعض الصفقات بينما أهله قد عادوا إلى مدينتهم.
وبعد أسبوع من ذلك اللقاء تتفاجأ شيخة باجتماع إخوتها، فهي بعد الطلاق عادت إلى بيت أهلها لتمكث به بمفردها بعد وفاة والديها
وبدأ ذلك الاجتماع بنقاش حاد بين إخوتها..
بدأ الحديث أحمد شقيقها الأوسط، حيث قال: لماذا نرفض أتعلمون من هو سلطان وماذا يملك؟
ليقطع حديثه شقيقه الأكبر ناصر: ولكننا لا نعرف نسبه..
ليعاود أحمد مقاطعة حديثه: نسب؟! أتعلم من أنسابه الآن يا أخي؟!
أتعلم أنه قبل اسمه توضع كلمة شيخ؟!
ليقول ناصر: ومع ذلك ليس من قبيلتنا..
ليهتف رائد أصغرهم: دعوا شيخه تقرر..
كانت تسمع حديثهم ونقاشهم لأول مرة لتقول: أقرر ماذا؟!
ليقول رائد لقد خطبك سلطان ابن جيراننا السابقين الذين انتقلوا..
لم تنبس بينت شفة كانت في حيرة ودهشة من أمرها..
لقد كانت عكس سلطان تماماً فهي لا تحمل بين جنبات قلبها أي مشاعر له
ولم يحل مساء ذلك اليوم إلا وناصر يقول لها مبارك يا أختي الحبيبة، لقد قررنا زواجك من سلطان ولم يدع لها مجال للاعتراض.
شيخة فتاة أذاقتها الحياة أصناف الآلام حتى أصبح عدم استشارتها بزواجها أمراً هيناً، بل لعله إنقاذ لها من وحدتها رغم أنها كانت تدافع تلك الوحدة بالعطاء والبذل، فأقل ما يُقال في حقها أنها نسمة أمل وتفاؤل لمن حولها.
وخلال أيام معدودة تم عقد قران شيخة وسلطان دون حضور الزوج..
كان ناصر بجوار شيخة وهو يجري اتصالاً بسلطان
- مرحبا متى تحضر لتأخذ شيخة
أحست شيخة بالمهانة ولكنها كانت تصمت احتراماً لأخيها
- لن أحضر ولكن شيخة ستكون طائرتي الخاصة بانتظارها غداً لتحضرها لي
هنا خرجت شيخة عن صمتها: دون محرم!
قاطعها صوت سلطان ليقول بشيء من السخرية عن أي محرم تتحدثين بأي عصر أنت؟
لترد عليه بعصر لم يمض ولن يتغير بداخلي لن أذهب إلى أي مكان دون محرم.
أحس سلطان بنبرة الإصرار في صوتها لذلك قال لناصر دع أحد أبنائك يحضرها لي.
ثم وجه حديثه لها لا تتأخري الساعة التاسعة صباحاً وأنت بالمطار.
أنهى سلطان الاتصال..
وهو يحدث نفسه هناك الكثير لتتعلميه يا شيخة، وهناك أفكار بالية تحتاج إلى تغيير..
وبالفعل في صباح اليوم التالي كانت شيخة تخوض تجربة الرفاهية والاستقبال الحافل والطيران الخاص..
وصلت لوجهتها وكان منزلها قصراً كبيراً وهذا القصر يعني نوعاً من ثراء لم تعتد عليه من قبل..
مضى أسبوع عندما أتاها اتصال من رقم لا تعرفه
- نعم
- أنا سلطان
لحظة صمت تسود
ليعاود سلطان حديثه ليقول لقد تم نقلك إلى مدرسة قريبة، بالتوفيق ثم أغلق الهاتف..
لم تغضب شيخة من طريقته الجافة
ولكنها حزنت لأنها لم تتمكن من وداع زميلاتها وطالباتها
وبالفعل بدأت شيخة العمل في مدرسة جديدة ومدينة جديدة
وبدأت تكون لها علاقات.
مر شهر لم تر شيخة زوجها ولكن جميع أفراد عائلته بدوا بمحبتها ففي هذا الوقت القصير تعرفت على الجميع، ولم يكن يسعدها مثل زيارات أم سلطان «ماما حصة».. التي بدورها أحبت شيخة، وفي المقابل شيخة وجدت بها الأم التي فقدتها..
وذات يوم وصلت هاتفها المحمول رسالة من سلطان ليخبرها أن أمه ستقيم لها بعد يومين حفلة على شرفها وأنه أرسل لها فستان من Brand عالمي مع عقد سيصلها غداً، وفي آخر الرسالة كتب (أتمنى أن لا تحرجيني مع عائلتي وأن تكوني لائقة بأن تكوني زوجتي)..
آلمتها إهانته تلك ولكنها لم ترد إلا بكلمة «حا ضر».
وبالفعل تجهزت وحضرت ذلك الحفل ولم يبالغ سلطان فكل الأنظار كانت مسلطة عليها..
اقتربت منها إحداهن وهي تفحصها بنظرات ثاقبة كما يفحص الجراح الماهر مريضه وقالت أخيراً احذري من زوجك إنه كل يوم في علاقة.
لترتسم على وجه شيخة علامات الدهشة وهي تهمهم في نفسها ماذا تقصد بالعلاقة؟!
العلاقة من غير الزواج أمر محرم كيف يتحدثون عنه كأنه أمر عادي فطرتها السليمة صرخت أعوذ بالله.
ولكن صوت «ماما حصة» قاطع كل شيء.. لتقول لها: الحمد لله أن سلطان استمع لي لقد أجبرته على الزواج.
لقد تجاوز عمره الأربعين ولم يكون أسرته بعد.. العمر يمضي يا بنتي أريد أن أرى أبناءكم، عندما قال لي إنه تزوج بك غضبت ظناً مني أنك عقيم ولكنه أخبرني أن تلك إشاعة أطلقها زوجك السابق.
صدمت شيخة بما سمعت ولم تعلم ماذا تقول..
لم تستطع شيخة أن تكبح رغبتها في البكاء لذلك قبلتْ رأس «ماما حصة» وانصرفت مسرعة لقصرها، بل إلى سجنها
استغرب الحضور، مما دفع إحدى أخوات سلطان للاتصال به:
سألها مسرعاً كيف كانت شيخة في الحفلة؟
ردت عليه أخته جميلة وأنيقة...
شعر سلطان بالفخر لكلمة أنيقة ظناً منه أنها ارتدت ذلك الفستان والعقد اللذين أرسلهما لها ولكن بقية حديث شقيقته جعلته يشعر بالذهول والمفاجأة..
لقد تألقت بفستان قصير صوف أزرق اللون كشف عن كتفيها لتغطيهما بشال من الفرو ذو لون أخذ من البنى أقل درجاته، وشعرها الذي عقصته بطريقة عشوائية لإبراز عنقها الدقيق ولتزيّن ذاك العنق بسلاسل ناعم ذي تعليقة زرقاء وزيّنت أذنيها قرطان صغيران ذوا لون أزرق أيضاً
أتعرف أنه من جمال إطلالتها لم أنتبه لقصر قامتها حتى سمعت إحدى النساء تتحدث بغيرة لتقول إنها قصيرة ثم ضحكت.
لم تعلم أنها بقولها ذاك نبهت الجميع لحذائها الطويل الشمواه الأنيق الذي ينتهي بفرو رسم جمال ساقيها..
بالمختصر يا أخي لقد اتفق الجميع أنك بعد كل تلك السنوات أحسنت الاختيار.. ولكن أتعلم أنها غادرت وفي عينيها الدموع فجاءة.
سأل باهتمام شديد لماذا؟
لا أعلم كانت تتحدث مع أمي وأخبرتها بأنها تنتظر أن يرزقكما الله بحفيدها.
أغلق مسرعاً وانطلق يحزم أمتعته، ليستقل طائرته ويعود وهو يلوم نفسه كيف وضعها في هذا الموقف.
أما شيخة فقد أطلقت العنان لدموعها بعد عودتها إلى منزلها..
لقد كانت كلمات «ماما حصة» كالقشة التي قصمت ظهر البعير.
طاقة التحمّل تلك انهارت، ولا تعلم سبب ذلك الانهيار
هل لأنهم ذكروا لها ذلك الاسم الحبيب «فهد» زوجها السابق الذي أجبرت نفسها على الانفصال عنه لكي يعيش في سعادة مع زوجته وابنه، أو لعل سبب انهيارها أنها شعرت بأنها سلعة معيبة اشتراها سلطان ليسكت أهله ويرضي غروره كمْ تكرهه.
نامت على تلك الأفكار واستيقظت في الصباح ولم يستطع ضوء النهار ولا أشعة الشمس وشروقها أن تخفف ألم روحها المحطمة.
لذلك حبست نفسها في غرفتها حتى حل المساء ونامت هرباً مما تجد داخلها.
وهكذا النفس البشرية تجعل من النوم والعزلة ملاذاً لها عندما تخذل أو تتألم.
وصل سلطان، ووقف يتأملها وهي نائمة ببجامتها الحرير البيضاء وشعرها الكستنائي المبعثر على مخدتها.
لقد كانت كما كان يعرفها لم تتغير ملامحها الصغيرة تلك، لا يعلم كيف تركها كل هذه المدة هل هو الانتقام أما إحساس أنه امتلكها أخيراً لا يعلم هل هو يحبها حقاً أم يكرهها
كل ما يعلمه الآن أنه سعيد وهو يشاهدها ويستعيد مشاعر حبه لها.
اقترب ليشتم راحتها التي بقيت معه منذ طفولته الأولى
ولكنها استيقظت بتلك اللحظة وابتعدت كمن رأت شبحاً
ليهمهم هو بالبسملة ويقول لها إنه أنا لا تخافي.
لتنظر له نظرة لن ينساها...
نظرة تجمع الاشمئزاز والغضب
لتقول له بنبرة قوية حادة: لماذا تزوجتني؟!
فبماذا سيجيب؟!
** **
- غالية محمد المطيري