الحديث عن الأدب الساخر مجال بحثي خصب، نظراً لأن الموضوع لم يشبع دراسة، ويواجه إشكاليات قلة التناول المنهجي لهذا الموضوع الذي دأبت بعض الدراسات القديمة على دراسته وفق المنهج الوصفي والتحليلي، وهذه المناهج لا تستند لمرجعية فلسفية تسندها، إنما قوامها على الانطباعات الشخصية التي لا تقدم طرحاً علمياً يستوعب المدونات الأدبية المنجزة في الأدب الساخر.
ونرى أن المنهج الأمثل لدراسة الأدب الساخر هي مناهج تحليل الخطاب (التداولية)، ومن خلال متابعة للمفاهيم التي كوّنت تصوراً للمنهج التداولي، نلاحظ نقاط ارتكاز يعتمدها الباحثون في هذا الحقل اللساني وهي «إن التداولية حقل لساني يهتم بالبعد الاستعمالي أو الإنجازي للكلام، ويأخذ بعين الاعتبار المتكلم والمتلقي والسياق»، والأدب الساخر بطبعه يرتبط بالسياق والمتلقي، فالساخر يراهن على ثقافة المتلقي والمشتركات الثقافية مع المرسل فلذا هو يوظف هذا المشترك، مما يجعل الدارس مجبراً على دراسة المجال التواصلي الذي يحدث الفعل الساخر.
ونجد أنفسنا في هذا المقال القفز على الأعراف العلمية في تفكيك الالتباس حول مصطلح السخرية وفق التصور التداولي، وقد كتبنا عن هذا الموضوع في كتابنا (تداولية السخرية في المعارك الأدبية) لأن طبيعة المقال تنحو للاختصار، لذا سنتحدث عن السخرية في الأدب السعودي الذي نلاحظ نشاطاً واضحاً في الكتابة الساخرة في المملكة العربية السعودية على مستوى المقال والرواية والقصيدة في فترة الثمانينات والتسعينات، ولعل السبب يعود بحسب تقديرنا إلى تجلي آثار الطفرة الاقتصادية، والصحوة، وظهور أثر التعليم النظامي، فهذه التحولات العميقة على مستوى فكري واقتصادي، أدت لتغيرات اجتماعية أسهمت في وجود مظاهر غير مألوفة، استدعت أن يكون الأدب حاضراً بكل طرقه للتعبير عن هذه التغيرات ورصده، وتوجيه رسائل مضمرة بحسب موقف الأديب منها.
لذا نرصد في الأعمال الساخرة لـغازي القصيبي صدى لرصد متناقضات الواقع الاجتماعي، وقد عالجها في أعماله الروائية مثل (أبو شلاخ البرمائي) وعموده الصحفي (استراحة خميس)، وعلى الصعيد الشعري نجد كمية من القصائد الساخرة المنشورة في الصحف، إلا أن تخصيص ديوان شعري ساخر معبر عن فترة الثمانينات والتسعينات نجده في المنطقة الشرقية عند الشاعرين: ناجي الحرز في ديوانه (قصائد ضاحكة) الصادر عام 2001م، و(ركلات ترجيح) الصادر عام 2003م، مما يجعل هذين الديوانين مرشحين لأن يكونا مدونة بحث نظراً لتقاربهما الزمني، والمكاني حيث أن الشاعرين من المنطقة الشرقية، ويوجد تقارب أسلوبي من حيث السلاسة وتقارب الموضوعات التي يعالجها الشاعران، وهذا ما ستكشفه عنها تقنيات السخرية في أعمال الشاعرين.
وهنا يجدر السؤال: ما تقنيات السخرية في شعر الحرز والسبع بوصفهما نموذجا للشعر الساخر في المنطقة الشرقية؟
وقبل الإجابة ينبغي أن نشير أن الشاعر لا يلتزم بتقنية واحدة بل تتضمن القصيدة عددا من التقنيات ولكن نراهن على التقنية الأبرز التي برزت في القصيدة، وهناك إشكالية أخرى هل يمكن عدّ شعر الهجاء من الشعر الساخر، بتقديرنا أن الهجاء إذا وظف السخرية بطريقة فنية، بعيداً عن السباب الفج والإهانة المباشرة يمكن أن نعده، لكن في هذا الأمر نلتمس الحالة الأغلب هل هي السخرية أم الهجاء.
أما أبرز التقنيات في الأدب الساخر
1- توظيف المفردة العامية
ويعني ذلك أن تدرج كلمات من العامية المتداولة، بهدف كسر الجدية مع المتلقي، ولأن سياق الشعر الساخر يسمح بشكل موسع بتوظيف المفردة العامية التي تدرج بين قوسين، ونلاحظ بروز للمفردة المصرية العامية، ولهذا سبب لشيوع اللهجة المصرية، وحيويتها في مجال السخرية، ومن النماذج قول حسن السبع:
ديوان شعرك سعره
في السوق سعر (السندويشه)
ويقل عن سعر (المعسل)
عابقاً في جوف (شيشة)
يا من يعيش على القصيد..
أفق فما الشعر عيشه
أما ناجي الحرز فله نص يكاد أن تكون الكلمات العامية تستحوذ على نصف القصيدة:
لمحت (بوكي) فقالت:
هذه والله فرصة!
كيف لا (ألطش) لي من
هذه (الرصات رصة)؟
وهو لايدفع فلسـا
واحدا إلا (بخبصـــة)
أتراني (لنويجي)
(الحرز) أصبحت (مقصّة)
(لطشت مالطشت) كالــ
برق إذ لاح بعرصـة !
والحرامي حين يغــزو
غزوة ما (ينتوصـه)
2- التصوير الكاريكتوري
يعد مصطلح «الكاريكاتوري» رائج الاستعمال لارتباطه بالرسوم التشويهية في الصحافة، حيث تفرد في الصحف المتداولة زاوية يومية لرسومات هزلية ذات بعد مقا صدي ناقد لشخصية ما أو قضية ما أو ظاهرة ما، حتى غدا الكاريكاتور فناً قائماً بذاته.
وقد عدد عامر الحلواني خمس عشرة تقنية للصورة الكاريكاتورية منها: الافتراض، التشويه المطلق، عكس دلالة القول، المبالغة، التأليف بين المقدس والمدنس .... إلخ.
وقد استحضر حسن السبع شخصية قيس مجنون ليلى وأعاد إنتاج سرد شخصيته فيما لو كان معاصرا وتزوج ليلى، لينتج صورة كاريكتورية لمجنون ليلى:
ثم انتهى شهر اللباقة و ( الشياكة ) والعسلْ
وتحالفت ليلى مع الثوم المفصص والبصل
وعلا صراخ الطفل حتى فارق النوم المقل
وتعطلت لغة الغرام وساد في الصمت الجدل
وارتاد قيس (بشكة البالوت) يروي ما حصل
3- كوميديا الموقف
وهذا مصطلح في مجال فن التمثيل وارتبط بنوع من المسلسلات الأمريكية والبريطانية وصنع المصطلح في هذا الحقل، ولم نجد من وظفه في حقل الدراسات الأدبية، وفي هذا النوع يعيد الشاعر كتابة موقف بطبعه هزلي وقد يكون الموقف حزينا لكن يظهر الشاعر براعته في صياغته بطريقة ساخرة أو العكس يكون أليما ويعيد سرده.
كما حدث مع ناجي الحرز حينما وجد باب دورة المياه - أعزكم الله- مقفلاً في مكان عام، وهو في عز احتياجه، فصب جام سخريته على الذي قام بوضع القفل مدعياً أنه خائف أن يسرق ثروته المذخورة، محاججاً إياه بأن من سيدخل كذلك سيعطيك!
يقول ناجي الحرز:
ورقيع في العمارة
اتخذ اللؤم شعاره
فاق أهل الشـــح ممن
أسســوه بجـدارة!
فقد استحــدث أمرا
وادعى فيه الشطارة
فاشترى للباب قفلا
باب مرحاض القــذارة
خائفا أن ينهــب النــاس
من (الكوع) ادخاره
قلتُ: ياهذا رويـدا
ملت عن خط المهـارة
إن من يدخل يعطيـك
فلا تخش الخســارة
إنما الخاسر مـــن ولاك
ياهذا صــدارة
وهناك تقنيات أخرى مثل التناص الساخر وهو كثيرفي شعر الشاعرين حيث إقامة قصائد هزلية ساخرة على أنقاض نصوص معلمية ، والمفارقة بكل أنواعها، لكن هذا ما يسعه مساحة المقال في الصحفية، ونختم بنقطة ان موضوعات السخرية في شعر الشاعرين تتمحور حول ثلاثة محاور:
1- الهم الثقافي: ونعني نقد الظواهر التي يعاني منها المثقف، مثل الادعاء المعرفي، والثرثرة في المحافل لأنصاف المثقفين، ونجد مثلا لحسن السبع :
لا أنت من عبد الحليم
ولا فريد الأطرش
فدع الغناء لأهـله
واعرف مقامك واخـتش
وأجاب: «نجم صـاعد»
فأجبته: «في المشمـــش»
2- الهم الاجتماعي والأسري : وهو كل ما يعترض الشاعر من تصور عن اختلال ومفارقات السلوك الاجتماعي والعلاقة بين الزوجين من مفارقات، وهو كثير في شعر الشاعرين .
3 - نقد السلوك الإنساني: وهو ما يتعلق بالطباع الفردية مثل : البخل والطمع.
4 - غرض ترفيهي هزلي: كالمقارنات التي تكون بين الفواكه، أو الممازحات مع الأصدقاء.
وفي ختام المقال: نشير إلى أن ما احتواه هذا المقال يختصر مشروع دراسة قد نخصص لها عملا بحثيا في مقبل الأيام لو وجدت الدعم، حيث أننا نهدف إلى إثراء الدراسات التي تصب في مشروع وزارة الثقافة حول الدراسات عن الأدب السعودي.
** **
يحيى عبدالهادي العبداللطيف - شاعر سعودي وباحث أكاديمي