أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
يُغْتَفَرُ في تعريف كل حقلٍ علمي أو ثقافي الابتداءُ بالتعريف الجافِّ من غير شرحٍ ولا تعليل في سياق مبادئ العلوم العشرة، كفائدة العلم، وموضوعه، وحُكْمُه.. إلخ؛ لأن المراد بالتعريف تَصَوُّرٌ عامٌ يَتَّضح فيما بعد تفصيلُه بتعريف مسائله وفصوله وأبوابه.. إلا أن معارف (العقل العملي).. أي الأخلاق يُخفَّف من عمومها إذا عُرِّفَتْ بأنها (المَنْفعةُ التي دلَّتْ عليها التجرِبة البشرية، والخِبْرة الفردية)؛ فيضاف إلى هذه الخبرة: (المُعادَلة بين العاجل والآجل، وأن الإيثار في العاجل والصبر يحصل به أعظم منفعة للفرد في الآجل ويحصل له لذة وسعادة في العاجل كما يحصل لغيره منه منفعة في ذلك العاجل.. وأن الأخلاق ديانةٌ لا يرجو مِمَّن نالَه منها خير ثواباً إلا ما يناله هو (أي صاحِبُ الخُلُق) من سعادة ولذة من جَرَّاء تنفيسه كُرْبة غيره، ولبرود أُوار الرَّحمة التي تتأثر منها مشاعرُ ذي الرحمة.. وأن الأخلاق اشتراءٌ لمَرْضاة الله الشكور الحميد المحيط علاَّمِ الغيوب وما في الصدور)؛ وذلك بخلاف الأخلاق المادية التي تتبدَّل مع غياب الرقيب، وهكذا الأخلاق الثعلبية التي تَصْطَنع الأخلاقَ تطبيقاً لتحقيق غاية، وقد تكون هذه الغاية ظلماً وعدواناً كالتَّخلُّقِ بالإنسانية، فَتُؤوي الدولةُ القويةُ كلَّ مُجْرِمٍ في حَقِّ أمته ووطنه، وتُجْرِي له مالاً، وتَمْنَحه وسائل التواصل الإعلامي بحجة (حُرِّية التعبير).. والغاية وراء كل ذلك خططٌ مدروسة لبسط الظلم والعدوان، والابتزاز، وتحقيقِ مبدأ (فَرِّق تَسُدْ) بالتضليل وزرع التعدٌّدية.. أي حُرِّية التدمير؛ فإذا تَمَّتْ الغاية باعوا المُحْتَضنين باسم الإنسانية بيع البعر (كيس الجَلَّة بنصف ريال)!.
** التعريف بالجميل شيء آخر:
التعريف بالجميل لا يُغْني فيه تعريفٌ موجز، ولا يكون التعريفُ لأقصى ما يُقْدر عليه من الإيجاز إلا بعد سياحةٍ طويلة مع النظرية الجمالية مُفَصَّلَةً غايةَ التفصيل، وتكونُ بعد ذلك نظريةً في المعرفة والعلم مُسْتقِلَّة إلا أنها مُقيَّدة بالجمالية، ثم تكون مرجعاً لِمَا اصْطُلِحَ عليه بالفنون الجمالية بما فيها النصُّ الفني، وذلك عندما تتلقِّي نموذجاً جمالياً؛ فتعيدُه إلى عناصره من النظرية الجمالية.. وأول بناءٍ للنظرية الجمالية أن يفحص الفرد مشاعِره في قلبه، وَيُسَمِّيها أو يصفها بما يدلُّ عليها لغة؛ فإذا كان الإنسان في جوٍّ صامت غير منصتٍ لمسموع، ولا مُتأمٍّلٍ في مرئيٍّ، ولا مُسْتَذْكِرٍ إحساساً جماليا سابقاً: فإن ما في وجدانه من فرحٍ أو ضيقِ خاطرٍ لا يُوصف بجمال أو قُبح، وليس معنى ذلك وجودُ وسيطٍ بين المُفردتين يوصف بأنه غير جميل ولا قبيح؛ بل معنى ذلك أنه لا وجود في هذا الصمت لجمال أو قُبْح؛ لأنه لا توجد علاقة بين الوجدان وشيء خارج الوجدان يثير الجمال، وهو الجميلُ الذي تَـحْصُلُ عنه المشاعرُ الجماليةُ التي فحصتها النظريةُ الجمالية، وَمَيَّزتها اسماً أو وصفاً بما يدل عليها لغةً؛ فعلى سبيل المثال (اللذة) إحساس جمالي، ولكنها ليست لذة تحصل من ملموس كمصافحة يدٍ فاتنةٍ بضَّة؛ فذلك شهوةُ لذَّةٍ تنطفي بعد المواقعة كيد الزوجة الفاتنة، أو تظلُّ حُرْقةً في القلب إنْ وقع اللمْسُ على يد أجنبيةٍ مُحالةِ المَنال، والملموس باللسان (الذوق) شهوة تزول بأكل أو شرب ما هو لذيذ، وهكذا ما أدركته حاسة الشَّم من الروائح الطيِّبة لذَّة.. وتُوصف هذه الأشياء بالجمال تجوُّزاً؛ لعموم معنى اللذة الذي يشمل لذة الجمال، ولكنَّ لذةَ الجمال أخص، ولا تكون إلا بالسمع أو البصر.. وهكذا انتعاشُ الجسم بالنسيم العليل لذة بملامسة الجسم كله، ويقال: (الجوُّ جميل) تجوُّزاً.. وهكذا لذةُ الفَرَحِ بقدوم رزقٍ وأنت في ضيق ذات يد جاءك الرزق من حيث لا تحتسب؛ فهو لذةُ منفعةٍ لا توصف بالجمال لا حقيقة ولا تجوزاً إلا أن يكون في الرزق هديةٌ من لباس أنيق، أو سِتارَة نافذة، أو منظرٍ طبيعي، أو منظر فني؛ فتلك لذة ثانية لم تحصل من الفرح بالرزق، وإنما حصلت بالعلاقة بين بعض أعيان الرزق وبين الوِجْدان.. ومفردات المشاعر بالجميل أو القبيح التي تختصُّ بأنها مشاعر جمالٍ أو قبح أو وسائطُ بينهما من جهة قُوَّةِ التأثير وضَعْفِه كثيرة جداً كالسروواللذة والبهجة والانقباض والسماجة، وفيها مفردات مجازية كالحلاوة والبرودة؛ فتصطفي من هذه المفردات ما له خصوصيةُ جمالٍ في المسموع أو المرئي.. وليس كل مسموع ومرئي مثيراً للجمال؛ فثورةُ البركان لا تصفها بالقُبح؛ وإنما تصفها بأنها مُزعجة أو تجلب الخوف؛ فحكم هذا حكم اللذة الشهوانية؛ لأن ذلك نقيض اللذة؛ فحكم المتعة الشهوانية باللذيذ كحكم الخوف والوجل والقلق من المُنَغِّصات؛ لأن النفس تعافه؛ فلا تصف الخوف من الذئب أو السَّبُع وأنت وحيد ليس معك سلاح بأنه قبيح.. وإلى لقاء عاجل إن شاء الله تعالى، والله المستعان وعليه الاتكال.
** **
كتبه لكم/ أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري - (محمد بن عمر بن عبدالرحمن العقيل) -عفا الله عَنِّي، وعنهم، وعن جميع إخواني المسلمين -