فقد التعليم والعمل الخيري رائدًا من رواده ورجلاً من رجالاته البررة رجل البر والإحسان، الشيخ محمد بن إبراهيم العلي الخضير بعد حياة عامرة قضاها في خدمة الدين ثم ولاة الأمر والوطن من خلال مسيرة امتدت لعقود أسهم فيها بعديد من المشاريع التعليمية والخيرية المتعددة والمتنوعة والثرية في مجالات عدة هدفت منذ بداياته الأولى للاستثمار في بناء شباب الوطن، إذ كان من أوائل المبادرين لفتح المدارس في بداية التعليم الأولى في الأحساء والخرج عندما عمل في شركة أرامكو وبعدها في مشروع الخرج الزراعي وقادته نيته الصالحة للاستثمار في قطاع التعليم الأهلي العام، ومن يقرأ سيرته يعرف ذلك حيث روى لي مشافهة - رحمه الله - أنه في البدايات الأولى كلما وفرّت الدولة المدارس وتحقق الهدف انتقل إلى مكان آخر ولأن صاحب النية الطيبة يوفقه الله للخير فقد أمد الله في عمر الشيخ - رحمه الله - ليواصل همته وطموحه في مجال التعليم الذي ورثّه فيما بعد إلى أولاده ليكملوا مسيرته متفرغًا إلى المشاريع الخيرية التنموية التي أنفق عليها بسخاء ملايين الريالات في منطقتي الرياض، والقصيم، وخاصة في مسقط رأسه محافظة رياض الخبراء حيث وفقه الله في الثلث الأخيرة من عمره المديد وتفرغ لأعمال الخير والبر والإحسان في مشاريع كان يردد في افتتاحها أن ذلك يأتي خدمة للبلد وأهله.. مبتغيًا بذلك الأجر، والثواب، الذي يعرف الشيخ محمد الخضير -رحمه الله - ونشأته، وبداياته الأولى، وكفاحه، وطموحه، وجده، واجتهاده، لا يستغرب ما قدمه، فكانت حياته أشبه ما تكون بالمحطات المتعددة، والمتنوعة التي واجهته، وتجشم من خلاها الصعاب، وتجاوز فيها المنعطفات، وكانت في كل مرة تكون له نقطة تحول حيث وضع وهو طفل صغير هدفا لا بد من تحقيقه وشكل ذلك الهدف شخصيته، وكانت نقطة التحول الأولى في حياته، وهو طفل مشاهدته لأهالي بلدته رياض الخبراء وهم يقدرون قاضي البلدة وينزلونه منزلة رفيعة، وبعد أن سأل والده - رحمه الله - عن سر ذلك كان الجواب أن ذلك بسبب العلم الذي يحمله، وهنا كانت هذه العبارة الجذوة التي أوقدت النار لتنير له طريق التعلم والتعليم، ليسعى بعدها ليكون في تلك المكانة، فبدأ في تحقيق مشروعه الأول وتعلم القراءة والكتابة لدى كتاتيب بلدته، وخلال مدة وجيزة بزّ أقرانه الذين سبقوه، وتفوق عليهم إلا أن ضيق اليد وشظف العيش الذي حكم عليه وعلى أبناء جيله جعله يرحل بحثًا عن لقمة العش، وهو في سن مبكرة ولكن حب العلم والتعليم وطموحه في التعليم ظل هاجسًا يعيش معه فرحل إلى أحد أخواله في الخرج ليعمل وهو في سن صغيرة فلاحًا مع غيره من العمال، وبعد فترة بسيطة سمع بشركة أرامكو فاستأذن خاله ورحل مع إحدى سيارات أرامكو للمنطقة الشرقية وهنا بدأت محطته الثانية حيث تم تسجيله في الشركة في البداية عاملاً، وبعد فترة سمع عن مدرسة للتعليم فالتحق فيها جامعًا بين العمل والدراسة، وأكمل دراسته في مدارس الشركة وتخرج فيها متقنًا للغتين العربية، والإنجليزية وكان في ذلك الوقت يعمل مترجماً في إحدى إدارات الشركة وبعد تخرجه تم طلبه وثلاثة من زملائه للتدريس في نفس المدرسة، وقاده حبه للتعليم بعد أن رأى أبناء بلده يتقنون اللغة الإنجليزية ولا يجيدون القراءة والكتابة باللغة العربية وغيرة عليهم طلب من الشركة أن تعطيه غرفة حولها إلى فصل دراسي في الفترة المسائية لتعليمهم القراءة والكتابة ونفع الله به، وكانت محطته الثالثة ذهابه للخرج للعمل في مشروع الخرج الزراعي، إذ كانت سمعته وسيرته حسنة في الشركة مما جعل مدير الخرج الزراعي (أمريكي الجنسية) يسعى ليستقطبه للعمل في المشروع الذي تردد في بدايته، ثم وافق بعد ما طلب منه مدير المشروع أن يأخذ إجازة لمدة شهر ليعمل هناك وبعدها يقرر إما الانتقال أو العودة، إلا أنه رحل ومع رحيله للخرج وجد أبناء العمال في منطقتي السهباء والخفس لا يتعلمون لبعد المدارس عن مقر إقامتهم ليطلب من مدير المشروع الزراعي الذي كان يخطب وده وعرض عليه مشروع فتح مدرستين ووافق على ذلك وكلفة بالإشراف على عملية البناء وخطط المدرستين بكل بساطة وكانت من الطين وتمت عملية البناء في مدة وجيزة، وقد تغلب على مشكلة المعلمين بأن جعل دراسة هؤلاء في الفترة المسائية وأعطاهم نفس راتبهم الذي يتقاضونه من مديرية المعارف العامة في الفترة النهارية، وحيث إن الخرج كانت فيها قاعدة عسكرية وفيها أيضًا المصانع الحربية التي كانت تضم عديداً من الشباب السعوديين الذين يعملون بها فقد رغب عديد منهم في الالتحاق للدراسة الليلية، وهنا كانت مديرية المعارف العامة قد خرجت من مبنى لآخر ليستغل المبنى الأخير ويفتح فيه مدرسة ليلية لمكافحة الأمية كانت برسوم شهرية مقدارها (15) ريالاً كان معظم الدارسين لا يدفعها وكان ينفق عليها من راتبه، ولم تغلق حتى وفرت الدولة مدرسة لمحو الأمية، وبعدها رحل من الخرج إلى الرياض في محطتهلرابعة وقاده حبه للتعليم وشغفه به أن يهتدي إلى مدرسة صغيرة فتحها أربعة من رجال وزارة المعارف برأس مال يبلغ (24) ألف ريال وعرضوها للبيع قبل نهاية عامها الأول لعدم جدواها، فقابلهم الشيخ - رحمه الله- وعرض عليهم الشراء بأن يكتب لكل واحد منهم سنداً بمبلغ (6000) ريال يسدده فيما بعد، ووافق هؤلاء وتمت عملية البيع، وواصل عمله في المدرسة الذي كان ينفق عليها نصف راتبه الذي يبلغ (1200) ريال وروى لي شخصيًا أن نصف هذا الراتب يصرف على بيته والنصف الآخر يصرف على المدرسة التي قال إن مصروفاتها تبلغ (5000) ريال وإيراداتها تبلغ (1000) ريال فقط، وكان ذلك في عام 1378هـ وخلال ثلاث سنوات وتحديدًا في بداية الثمانينيات الهجرية أنشئت الرئاسة العامة لتعليم البنات ورأى أن من المناسب عرض المدرسة لتشتري موجوداتها الرئاسة فبعث برقية بذلك إلى الملك فيصل - رحمه الله - الذي حول برقيته للرئاسة وتواصل معه الشيخ ناصر بن حمد الراشد الذي كان رئيسًا لتعليم البنات في تلك الفترة وواعده في الفترة المسائية ليلتقي فيه بالمدرسة، وكان الشيخ ناصر الراشد رحمه الله ذكيًا ومستشرفًا للمستقبل إذ إن الرئاسة في بداية تأسيسها لم يكن لديها الخبرات، فعرض على الشيخ محمد الاستمرار في العمل ليكون قدوة فيه ووعده بالدعم وفعلاً أوفى بما وعده به حيث تحملت الرئاسة (50 في المائة) من رواتب المعلمات، ودفعت إيجار المبنى ومبلغ (150) ريالاً مقابل كل فصل دراسي، إلا أن ذلك لم يرض نهم وطموح الشيخ فوثب نحو محطته الخامسة ليرضي طموحه لتطوير المدرسة فقرر أن يعمل في مجال المقاولات التي كانت رافدًا لتحقيق حلمه وفعلاً تحقق له ذلك قبل نصف قرن تقريبًا وافتتح مدارس التربية النموذجية في مبان تعليمية نموذجية خرجت أجيالاً متعددة، وقد سلم رأيتها لأبنائه لإدارتها، إبراهيم ثم خالد، وتحولت تلك المدارس التي هي الأولى في مسيرة التعليم الأهلي في نجد قاطبة، إلى شركة مساهمة بمسمى الشركة الوطنية للتعليم وهي من كبريات الشركات التعليمية في المملكة ورئيسها التنفيذي حاليًا الأستاذ محمد بن خالد الخضير وهو من خريجيها وهي الآن تملك أكثر من (15) مشروعًا تعليميًا في مناطق الرياض والقصيم والظهران والخبر، كما حث أبناءه للاستثمار في التعليم العالي فحقق رغبته تلك ابنه البار الأستاذ خالد الذي حقق حلم الشيخ وحوله إلى واقع بإنشاء جامعة اليمامة في منطقة الرياض والمنطقة الشرقية وهمن أوائل الجامعات الأهلية بالمملكة التي أسهمت ولا تزال بسد حاجة سوق العمل من الخريجين المؤهلين، وبعدها ترجل الشيخ -رحمه الله – وعاد إلى محطته الأخيرة لتعانق محطته الأولى وعاد إلى بداياته الأولى ليستعيد ذكرياته الأولى في مزرعة أنشأها ليتذكر معها أيام الصبا الذي عاش فيه مع والديه وأخيه (علي ) وجيله الذي نشأ معه في (النفيد) في محافظة رياض الخبراء بمنطقة القصيم، وليتفرغ للعمل الخيري الذي أصبح أحد رواده إذ تم تكريمه من قبل ولاة الأمر أكثر من مرة، لمبادراته الخيرية ومنها على سبيل المثال لا الحصر إنشاء مجمع تعليمي بالقصيم يضم المراحل الثلاث، ومعهدًا ثانويًا للعمارة والتشييد، ومعاهد متعددة للقرآن الكريم وعلومه، في عدة محافظات، وقاعات ثقافية متنوعة، وجائزة للتميز في التعليم تحتفل سنويًا برعاية أمير منطقة القصيم لتكريم المتميزين والمتميزات، من المعلمين والمعلمات، ومساهمات متنوعة في مجال العمل الخيري التي يصعب ذكرها وكانت من توفيق الله له، ويكفي من القلادة ما أحاط بالعنق وفي الحديث (خيركم من طال عمره، وحسن عمله) وحسن العمل مع طول العمر من الأمور التي يغبط عليها صاحبها نحسبه كذلك، والله حسيبة ولا نزكي على الله أحدًا، وقد رحل الشيخ محمد الخضير في صبيحة يوم الخميس الخامس من شهر ذي القعدة لعام 1444هـ، وصلي عليه عصرًا، وشهد جنازته جمع غفير يتقدمهم أولاده، وقرابته، ومحبوه، ورجال التعليم، وبرحيله فقد الوطن واحدًا من رواد التعليم والأعمال المخلصين، أسأل الله أن يجعل كل حرف تعلّم فيه جيل من الأجيال المتعاقبة السابقة، واللاحقة، رافعًا لدرجاته في الفردوس الأعلى من الجنة ووالدينا ومن نحب، وخالص العزاء، والمواساة لأسرته الكريمة والحمد لله على قضائه وقدره، ولا نقول إلى ما يرضي ربنا وإنا على فراقك يا أبا إبراهيم لمحزونون.
** **
- د. سعود بن عبدالعزيز الكليب