اللواء الركن م. د. بندر بن عبدالله بن تركي آل سعود
إن اختلس الواحد منَّا هذه الأيام بضع دقائق من وقته، ثم جلس في لحظة صفاء يتأمل بهدوء حال العالم اليوم، لاسيَّما حال العالم العربي والعالم الإسلامي وما اصطلح الغرب على تسميته بـ (العالم الثالث) عموماً؛ لا بد أن يتجمد الدم في عروقه من شدة ما يصيبه من دهشة وذهول. فمن العراق إلى سوريا فلبنان، فلسطين، اليمن، الصومال، السودان وليبيا.. نصف العالم العربي تقريباً، غير الأقليات العربية هنا وهناك، يعيش اليوم أزمة حقيقية تهدد وجود الدولة الوطنية نفسها، ناهيك عن دمار البنية التحتية وما صاحب ذلك من قتل وتشريد وترويع وسلب ونهب وهتك للأعراض واعتداء على الحرمات وتعطيل للحياة في كل جوانبها.
صحيح.. الغرب بكل ما فيه من قوىً استعمارية وصهيونية يريد ذلك، بل يعمل ليل نهار لتحقيقه. وقد ظل الأمر لفترة طويلة، منذ رحيل الاستعمار بجسده عن تلك البلدان، يُدَار تحت الطاولة. أما اليوم، في عهد الفضاء المفتوح، والشركات العابرة للقارات، ومؤسسات (حقوق الإنسان) الوهمية، وما يقدم من سموم تحت غطاء المساعدات، فلابد أن يكون معظمكم قد سمع شخصيات بارزة في الغرب من المتطرفين والمعتدلين على حد سواء، وهم يصرحون بهذا ويعلنونه على الملأ، من رغبة حقيقية لدى الغرب في دعم حركات التمرد وتجار الفتنة والأنظمة الشمولية لتبقى قابضة على زمام السلطة لأطول مدة ممكنة، لنشر الفساد والخراب والدمار، وتعطيل عجلة التنمية، حتى تبقى ثروات تلك البلدان مخزوناً إستراتيجياً للغرب، فيما تظل تلك البلدان نفسها سوقاً رائجة لصناعات الغرب، لاسيَّما السلاح الذي يصر الغرب على وصوله إلى كل مواطن في تلك الدول التي يقولون إنها لا تستحق الحياة، لأنها لم تسهم في اقتصاد العالم ولا في ثقافته أو تقدمه وتطوره بأقل شيء ممكن، ليستمروا في قتال بعضهم بعضاً إلى الأبد؛ بل ذهب بعض الغربيين المتطرفين إلى أبعد من هذا، فعبروا عن رغبتهم صراحة في إبادة العرب والمسلمين والأفارقة عموماً، لأنهم ليسوا جديرين بالحياة من وجهة نظرهم.
وقطعاً ما يحدث اليوم في (العالم الثالث) عموماً، لم يكن وليد الصدفة، بل هو عمل ممنهج، خطَّط له الغرب ووضع لبنته الأولى قبل خروج المستعمر من تلك البلدان، بل منذ اللحظة الأولى التي أناخ فيها بكلكله وجثم على صدر تلك البلدان إثر أفول نجم دولة آل عثمان في تركيا (1337/1918) إذ وضع حدوداً وهمية هنا (سايكس - بيكو) ومنح صكوك براءة لقبائل هناك، وجنَّد مجموعات متفرقة هنا وهناك من ضعاف النفوس الذين أغراهم الغرب بالمال والسلاح والخمور والجنس والقمار، فأصبحوا يدينون له بالولاء أكثر مما يدينون لبلدانهم؛ وتحولوا إلى رافعة أساسية في كل ما يحدث من دمار في مواطنهم الأصلية.. جواسيس يزودون أسيادهم الغربيين بكل ما يطلبون من معلومات، ويدسون السم لمواطنيهم حسب رغبة الغرب وتوجيهه.
ليس هذا من باب نظرية المؤامرة الممجوجة كما يحلو للبعض رؤية الأمر، إذ إن الشواهد لا تعد ولا تحصى في كل تلك البلدان التي ورد ذكرها تحديداً في عالمنا العربي، وتعيش اليوم أزمة حقيقية؛ إذ كيف مثلاً وصل السم لياسر عرفات عندما كان محاصراً في غزة، مع أن كل من حوله من حرسه هم فلسطينيون من أبناء جلدته الذين أفنى حياته في الجهاد والكفاح من أجل قضيتهم العادلة؟ وكيف اغتالت دولة الكيان الصهيوني قيادات فلسطينية بارزة كالشيخ أحمد ياسين وعبد العزيز الرنتيسي وغيرهما وسط أزقة غزة الضيقة؟ وكيف وصل الصهاينة لـ (أبو جهاد) في تونس؟ بل كيف ظلت دولة الكيان الصهيوني على الدوام حتى هذه اللحظة وهي تستهدف سيارة هنا وشقة هناك بعناية شديدة، إن لم تكن لها عين ترشدها؟ بل أكثر من هذا: تحدث أعضاء الموساد كثيراً عن عمالة بعض الفلسطينيين وما قدموه لهم من خدمات عظيمة، واستجداء بعضهم للانضمام إليهم.. هذا موجود وموثق في كثير من القنوات الفضائية؟ وكيف تحول لبنان (باريس الشرق) إلى دولة فاشلة اليوم، تعطلت فيه الحياة الدستورية، وانهار اقتصادها إلى درجة تثير الفزع؟ وكيف تشرذمت سوريا؟ وكيف أصبحت العراق جحيماً لا يطاق، وقد رأينا كلنا العملاء وهم يدخلون بغداد (1424/2003) على ظهر دبابات الغرب، بصرف النظر على اتفاقنا مع صدام أو اختلافنا معه؟ وكيف استأثر الحوثيون بالقرار في اليمن وعبثوا بمقدراته؟ وكيف تمزقت الصومال إلى أكثر من دولة؟ بل كيف تحول السودان، ذلك البلد الوادع الهادئ، إلى سودانين؟ وليت الغرب اكتفى بهذا، بل يصر على تمزيقه طرائق قدداً، وما يحدث اليوم من قتال في الخرطوم بين أبناء البلد الواحد، أدى لتشريد كثيرين ونزوحهم داخلياً وخارجياً، ينذر بمصير مؤلم لدولة فيها اليوم أكثر من مائة حركة مسلحة، لكل حركة (قائدها) و(جيشها) وبالطبع الأصابع الخارجية التي تمونها وتوجهها حسب رغبتها. ولست من المتشائمين، لكن إن لم يسارع العقلاء هناك لتدارك الأمر، فحتماً سيقودهم ما يحدث في بلادهم اليوم إلى حرب أهلية لا قدر الله، لا أحد يدري متى تضع أوزارها، وما إذا كان سيبقى بعد ذلك سودان أم لا؟ وكيف أصبحت في ليبيا أكثر من حكومة، وأكثر من برلمان وأكثر من جيش؟ وكيف...؟ وكيف...؟ وكيف...؟ وقائمة الوجع تطول.
أنا لا أقول إن كل المواطنين في هذه الدولة أو تلك هم عملاء للغرب والمستعمرين، لكن قطعاً هنالك فئة تمارس هذا الدور بامتياز، لدرجة أن كل ما حاول أهل هذه البلاد أو تلك إطفاء نار الفتنة، سارعت تلك الفئة الرخيصة لإشعالها من جديد.
والحقيقة أتساءل هنا مع كثيرين من الغربيين الذين يقولون صراحة إن مصلحة الغرب تكمن في دمار تلك البلدان، وهو يعمل على تحقيق ذلك ليل نهار؛ لكنهم يتساءلون، وهم محقون: لماذا لا يدير مواطنو تلك البلدان أمورهم بشكل جيد يمنع تدخل الغرب في شؤونهم؟ وأضيف: لماذا لا تسمح أمريكا وفرنسا وبريطانيا وألمانيا وغيرها من دول الغرب بتدخل تلك البلدان أو أي دولة أخرى غيرها في شؤونها وإدارتها ونظام حكمها؟
إذاً أولئك هم الذين يخربون بيوتهم بأيديهم عندما يسمحون لتلك الفئة، حتى إن كانت قليلة، لتظل عصا غليظة في يد الغرب، يفرق بها شملهم وينهب ثرواتهم ويبيعهم سمومه ليخرب بلدانهم. وللذين لا يعترفون بنظرية المؤامرة الأزلية: في وسائل التواصل الاجتماعي حكاية متداولة لرئيس إحدى الدول الإفريقية، يقول: جاءتهم منظمة الصحة العالمية أيام انتشار الكورونا للوقوف على حقيقة وضع بلادهم ومدى انتشار الوباء فيها ليقدموا لهم المساعدة المطلوبة (يقصدون السم طبعاً). يقول رئيس تلك الدولة: قدموا لوفد منظمة الصحة العالمية عينات أخذت من حيوانات وطيور ونباتات تحت أسماء آدمية من مختلف الجنس والأعمار. فجاءت معظم النتائج (موجبة).. أي أن معظم حيواناتهم وطيورهم ونباتاتهم هناك مصابة بالكورونا؟
على كل حال، صحيح.. دفعني لكتابة هذا، ذلك الوضع المؤلم الذي تعيشه كثير من بلداننا العربية اليوم من مآسٍ يتفطر لها القلب حزناً؛ متمنياً من كل قلبي أن يعود تجار الفتنة هنالك إلى رشدهم فينخرطوا مع بقية إخوتهم من بني جلدتهم هنا وهنالك لتنمية بلدانهم والمحافظة على ثرواتهم وسد الطريق أمام التدخلات الأجنبية بتلاحمهم لحفظ كرامة مواطنيهم.
وقطعاً أناشد شعوبنا في خليج الخير لنظل ثابتين على العهد، قابضين بنواجذنا على لحمتنا الوطنية المتينة مع أسرنا الحاكمة وقياداتنا الراشدة الوفية التي ظلت تتعاقب على خدمتنا وحماية استقلال بلداننا وتوفير الحياة الكريمة لنا منذ قرون؛ ولعمري تلك هي الضمانة الوحيدة، بعد توفيق الله سبحانه وتعالى، لنظل نتقدم دوماً وننعم بهذا الاستقرار والأمن والأمان والرخاء، الذي يحسدنا عليه القريب قبل الغريب، ونضرب بيد من حديد كل مارق مأجور يتسول موائد الغرب النتنة الذي احتار حتى اليوم في كيفية الوصول لشق صفنا لغرس بذور الفتنة بيننا.
فاللهم لا تغير علينا، وأحفظ لنا استقرارنا وأمننا وأماننا ووحدتنا وتلاحمنا مع قادتنا الكرام البررة.. هذا التلاحم الراسخ الفريد المتوارث من آبائنا وأجدادنا، الذي أعجز تجار الفتنة والخراب والدمار عن الفت في عضدنا.. وأجعلنا اللهم إلى الأبد رسل سلام وخير وأمن وأمان واطمئنان للعالم أجمع.. اللهم آمين.