فضل بن سعد البوعينين
عدد سمو وزير الخارجية الأمير فيصل بن فرحان المبادرات المهمة التي قدمتها المملكة في قمة جدة، والمستوحاة من رؤية 2030، ومنها مبادرة استدامة سلاسل إمداد السلع الغذائية الأساسية لتحقيق الأمن الغذائي، مبادرة إنشاء حاويات فكرية للبحوث والدراسات في الاستدامة الاقتصادية، مبادرة البحث والتميز في تحلية المياه وبما يحقق الأمن المائي، ومبادرة تعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها، وهي مبادرات مهمة للعالم العربي.
أسهب سمو وزير الخارجية في توضيح أهمية مبادرة تعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها، وأشار إلى بعدها الثقافي، وأثرها في القوة الناعمة، وتأثيرها في الجوانب الاقتصادية، وقدرتها على فتح آفاق جديدة للمحتوى العربي والفني والثقافي، وبما يعزز العلاقات الاقتصادية مع الدول الأجنبية.
هناك رابط مهم بين مبادرة إنشاء حاويات فكرية للبحوث والدراسات في الاستدامة الاقتصادية، ومبادرة تعليم اللغة العربية والاهتمام بها، فالاعتماد على اللغات الأجنبية في البحوث والدراسات قد يحد من ارتباطها بالعالم العربي، ومواءمتها الرؤية والحاجة، وربما توجيهها المتعمد من قبل المعاهد والجامعات والمشرفين عليها لخدمة توجهات أجنبية.
كما أن التركيز على اللغات الأجنبية يؤثر سلبا في كفاية البحوث، وتنوعها، ومشاركة الباحثين العرب ممن لا يجيدون التحدث بها، ويجعلها أكثر ارتباطا بالرؤية الأجنبية التي لا تخلو من الانحياز.
سمو وزير الثقافة، الأمير بدر بن عبدالله، ثمن مبادرات «إعلان جدة» الختامي، التي ستعمل عليها المملكة وأشاد بإطلاق مبادرة «تعليم العربية لغير الناطقين بها»، التي «سيكون لها انعكاسات إيجابية على التواصل الحضاري العربي والخريطة اللغوية العربية»، إضافة إلى تعزيزها التواصل الحضاري بين الدول العربية والعالم، وإبرازها الحضارة والثقافة العربية العريقة والمحافظة عليها.
قطاع الثقافة أحد أهم القطاعات المعنية باللغة العربية، وتقديم المحتوى العربي الأصيل، ونشر التراث وتأصيله، وتنقيته مما لحق به من دسائس المستشرقين، وإعادة صياغته بفكر عربي، ولغة عربية، وموثوقية نابعة من معرفة تامة بالتاريخ والثقافة، وأمانة يعززها الدين، والوطنية.
منذ إطلاق رؤية 2030 ومبادرات الثقافة ومشروعاتها الكبرى مستمرة. اهتمام كبير وغير مسبوق من القيادة بالقطاع، أفضى لتأسيس وزارة الثقافة لتكون المسؤولة عن المشهد الثقافي محليا وعالميا، والمعنية بالمحافظة على التراث التاريخي للمملكة وبناء مستقبل ثقافي يسهم في بناء مجتمع حيوي، واقتصاد مزدهر، ووطن طموح.
التوثيق والتأريخ الثقافي السعودي والإسلامي والعربي، يجب أن تكون له الأولوية، في جميع المبادرات، خاصة وأن هناك مشروعات مهمة لدى وزارة الثقافة مرتبطة بجميع نواحي الثقافة، ومنها منظومة المتاحف، التراث، المواقع الأثرية، المعارض، والأعمال الفنية بأنواعها. مبادرات نوعية ستسهم في توثيق مراحل مهمة من تاريخ المملكة والعالم الإسلامي، ما يستوجب التعامل معها بحذر شديد، وكفاءة عالية لضمان مخرجاتها وإنعكاساتها الثقافية والتاريخية في وقتنا الحاضر، والمستقبل البعيد، وهو الأهم حيث ستتحول مخرجات الأعمال الثقافية والفنية، إلى محتوى تاريخي وشاهد على العصر مستقبلا.
وبالتالي فأهمية اللغة العربية في الجوانب الثقافية، الفنية، والإقتصادية لا تقتصر على فتح آفاق جديدة للمحتوى، بل وفي تأصيل الثقافة والتراث وتقديمه برؤية تأخذ في الاعتبار الجوانب التاريخية، والمجتمعية والأمنية، والوطنية بمفهومها الشامل. فاللغة هي وسيلة إيصال المحتوى، وتبقى الأهمية لمضمون المحتوى الذي ينشر الثقافة، والتراث والتاريخ، ويوثقه للأجيال القادمة، وهو ما يجب التنبه له.
من الملاحظ أن من يتصدر قطاع الثقافة عالميا، هم الغربيون في الوقت الذي يتم فيه تهميش المختصين العرب القادرين على توثيق الثقافة العربية وتقديمها بأمانة ووطنية تمنع تشويهها أو تدليس مكوناتها، أو استغلالها لايصال رسائل تتعارض مع الثوابت الوطنية والعقدية والثقافية. قد يكون الغربيون أكثر خبرة في المتاحف والتراث والفنون بأنواعها، إلا أن العرب والسعوديين في مقدمهم، أكثر خبرة ومعرفة بالمحتوى الثقافي الذي ينتمون إليه.
وبالعودة إلى قطاع الثقافة في المملكة، وما يشهده من حراك نوعي، ومبادرات مهمة لخلق قاعدة ثقافية تراثية تاريخية مستدامة، وإنفاق مالي كبير، فأحسب أنه في حاجة إلى تمكين أكبر للكفاءات الوطنية التي تجمع بين العلم والممارسة والخبرة والكفاءة المعززة للمحتوى الثقافي السعودي والقادرة على تقديمه للعالم بصورة ناصعة تعكس تاريخ و تراث وفنون المنطقة. الشراكة مع الخبرات الأجنبية أمر مهم، فقد سبقونا بمراحل كثيرة، ولكن من المهم أن تكون الشراكة وفق رؤية وإدارة سعودية، تعتمد في مدخلاتها على معايير وطنية ثابته لا يمكن الحياد عنها، وهو أمر يمكن تحقيقه من خلال القيمين السعوديين، ووضع معايير ومتطلبات ثابتة للقطاع، وحوكمة شاملة تضمن المواءمة التامة بين مخرجات الثقافة والرؤية الوطنية، والاستثمار الأمثل للمقومات، والموارد المتاحة.