جانبي فروقة
علق مؤخراً هنري كيسنجر الباحث في الدبلوماسية ومستشار الأمن القومي الأمريكي ووزير الخارجية السابق قائلا: «لقد أقنع الجانبان (الأمريكي والصيني) أنفسهما كل على حدة بأن الطرف الآخر يمثل خطرا استراتيجيا ونحن على طريق المواجهة للقوى العظمي» ويرشح كيسنجر «الدبلوماسية المتشددة والمحصنة بالقيم المشتركة» كطريق وحيد لمنع الانزلاق للصراع المدمر بين القوتين العظميين أمريكا والصين.
يرى القادة الصينيون أن الامتيازات هي حقها المكتسب بصفتها قوة صاعدة ولا يجب أن تكون منحة غربية. وعقيدة النظام الصيني هي أقرب للكونفوشيوسية من الماركسية ولذلك يسعى القادة الصينيون لتحقيق أقصى قوة ويحترمون إنجازاتهم. فهم يريدون أن يكونوا فاعلين في النظام العالمي بما تقتضيه مصالحهم. ويتابع كيسنجر فيما يتعلق بتايوان بأن الحرب على طريقة أوكرانيا هناك ستدمر الجزيرة وتدمر الاقتصاد العالمي والخوف من الحرب يخلق قاعدة للأمل، ويعتقد كيسنجر أن الذكاء الاصطناعي سيلعب دورا رئيسيا في الأمن القومي للدول خلال الخمس سنوات القادمة ويقارن إمكانات الذكاء الاصطناعي التخريبية باختراع الطابعة في القرنين السادس والسابع عشر حيث لعبت دوراً مهماً في نشر الأفكار التي تسببت في الكثير من الحروب المدمرة.
يعتبر السيد كيسنجر أن الأسلوب الأمريكي في إعادة تشكيل العالم العالم وفرض القيم الأمريكية والحرية وتحويله لنظام رأسمالي حر وديمقراطي هي المشكلة في الدبلوماسية الأمريكية حيث إن المبادئ الأخلاقية تطغى على المصالح حتى عندما لا تؤدي للتغيير المنشود فهو مثلا يقر بأهمية حقوق الإنسان ولكنه لا يوافق على وضعها في صميم السياسة ويوضح الفرق بين فرضها وبين القول إنها ستؤثر على العلاقات.
تتوقع مؤسسة البيانات الدولية أن يرتفع حجم البيانات في عام 2020م من 55 زيتابايت Zettabyte إلى 175 زيتابايت في عام 2025م (كل واحد زيتابايت تعادل ألف بليون غيغابايت) (وحدة قياس البيانات) والسباق في تطوير الذكاء الصناعي بخوارزمياته سيمكن الدول من التحكم بكنز البيانات هذا حيث يتوقع أن يلعب الذكاء الصناعي دوراً كبيراً في بناء القدرات العسكرية والأمنية الوطنية للدول والإقليمية والدولية فهو سيلعب دورا مهما في الأمن السيبراني وحرب المعلومات واستخدام الطائرات بدون طيار والروبوتات والاستخبارات العسكرية وأنظمة التحكم في والتوجيه في كل أنواع الأسلحة. وميزانيات الدفاع للدول في تصاعد كبير فقد أنفقت الولايات المتحدة الأمريكية في عام 2022م 877 بليون دولار على التسلح بينما أنفقت الصين 292 بليون دولار
ويبدو أن أنواع السباق والمنافسة بين الدول قد بدأت تتنوع أيضا فمع سباق التسلح وبدء السباق في الذكاء الصناعي نرى سباق براءات الاختراع والملكية الفكرية فقد تخطت الصين الولايات المتحدة الأمريكية في هذا السباق حيث في عام 2021م بلغ اجمالي براءات الاختراع والملكية الفكرية الممنوحة في الصين 607.758 بينما كان عدد البراءات والملكية الفكرية الممنوحة في أمريكا هي 286.205 (حسب شركة WIPO).
الصين هي التحدي الجيوسياسي الأهم للولايات المتحدة الأمريكية وقد اعتمدت الإدارة الأمريكية لبايدن سياسة ال 3 سي - 3C›s وهي اختصار لاول حرف من كلمات: المواجهة Confrontation والمنافسة Competition والتعاون Cooperation ورغم كل التحديات والتوتر بين أمريكا والصين فإن المؤشرات الاقتصادية بين الدولتين إيجابية حيث وصل التبادل التجاري البيني بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين رقما قياسيا إلى 690 بليون دولار في عام 2022 . وهذا يؤكد أن الانفصال الكامل عن الصين ليس هو الحل العملي والواقعي.
يشهد عام 2023م زيادة في المخاطر الجيوسياسية العالمية وها نحن نرى انفجار الوضع في السودان ولا تزال الحرب الروسية - الأوكرانية مستعرة وسيناريوهات حل النزاع غير مؤكدة والوضع الاقتصادي العالمي متدهور والتصخم ما زال مرتفعا ومشاكل الديون في البلدان النامية آخذة في التعقيد حيث وصل مجموع الدين العالمي إلى 303 تريليونات دولار في عام 2021 حسب معهد الدولي المالي.
وعلى الخارطة الاقتصادية العالمية نجد اليوم تكتل دول البريكس BRICS (البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب إفريقيا) قد بلغت مساهمتها في الناتج القومي العالمي 31.5 في المائة متجاوزة مساهمة دول الـG7 (السبعة الكبار: الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وإيطاليا وألمانيا وفرنسا وكندا واليابان) والتي بلغت 30.7 في المائة ناهيك عن أن عدد سكان دول البريكس تصل إلى 3.2 بليون شخص بينما عدد سكان السبعة الكبار فقط 770 مليون شخص.
ويشير مؤشر قدرة التأثير البيني الرسمي (FBIC) بين الدول (والذي وضعه العالم السياسي كينيث وولتز وهو مؤشر يقيس التأثير المتبادل بين دولتين بناء على دراسة العوامل الاقتصادية والسياسية والأمنية ومدى اعتماد دولة على اخرى) إلى انه في عام 2020، تجاوزت قدرة التأثير الصيني قدرة الولايات المتحدة في واحد وستين دولة، بينما تراجعت قيادة الولايات المتحدة إلى 140 دولة بعد أن كانت 175 دولة وحيث لا تزال الولايات المتحدة في المقدمة، فقد تقلصت ريادتها في قدرة التأثير مقارنة بالصين في جميع البلدان البالغ عددها 140 تقريبًا منذ نهاية الحرب الباردة.
بات العالم أمام توازنات وتحديات جديدة ومعقدة ورغم خطورتها إلا أنها قد تكون فرصة عظيمة للانتقال بالبشرية إلى مستوى جديد من التطور والعيش المشترك بسلام في ظل التطور السريع للتكنولوجيا والذكاء الصناعي وذلك طبعا إذا ما تم التعامل مع التحديات من منظور المصالح المستدامة وعدم استعمال القوة المفرطة، وكما قال المهاتما غاندي «السلام هو السلاح الأفضل للبناء الشامل».
** **
- كاتب مقيم في الولايات المتحدة الأمريكية