د.عبدالله بن موسى الطاير
معاهدة فرساي في يونيو 1919م، التي أدت إلى نهاية الحرب العالمية الأولى، هي واحدة من أكثر الاتفاقيات ظلماً وإهانة، ولكنها مهدت الطريق إلى السيادة النسبية للقانون الدولي، على الرغم من أنها لم تحل دون قيام حرب عالمية ثانية، قادت هذه الاتفاقية الدول إلى تحالف متعدد الأطراف سمي عصبة الأمم المتحدة في محاولة لعدم تكرار الحرب العالمية الأولى. المنظمة الدولية الوليدة أسست للحد من التسلح، ونزع فتيل النزاعات قبل أن تتطور إلى حروب شاملة. فشلت عصبة الأمم المتحدة في مواجهة القوى الفاشية في العالم، واندلعت الحرب العالمية الثانية، فتنادت دول العالم إلى استبدالها بهيئة الأمم المتحدة التي رأت النور بعد أن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها.
معاهدة فرساي، ومدونة عصبة الأمم المتحدة، وميثاق الأمم المتحدة جميعها قصدت تحقيق الأمن والسلم الدوليين على مبدأ عدم التدخل في شؤون الدول الداخلية، وتنظيم العلاقات الدولية والمصالح، وتقاسم النفوذ سلمياً، وتنظيم تبادل المنافع، وحركة السكان بسلام ووفق أنظمة دولية محمية بصكوك واتفاقيات وفوقها مجلس الأمن والفصل السابع. تمكنت الأمم المتحدة منذ قيامها عام 1945م من الحيلولة دون قيام حرب كونية ثالثة. لها ما لها، وعليها ما عليها، لكنها حققت قدراً كبيراً من الأمن والاستقرار أسهم في التنمية الكونية والازدهار الاقتصادي وما وصلنا إليه اليوم من رفاهية، وأوجدت شبكة متعددة الأطراف تنخرط فيها الدول سياسياً واقتصادياً وأمنياً وثقافياً من خلال عدد من الأجهزة التابعة للمنظمة، وعلى ضوئها قامت تكتلات أخرى متعددة الأطراف إقليمية ومتخصصة.
التعاون الدولي متعدد الأطراف الذي أسهم فيما وصلنا إليه من تقدم في شتى المجالات، وذروة سنام التطور الذي نعشيه هو الذكاء الاصطناعي، والتطور التقني بأشكاله المختلفة، مهدد اليوم. تقول سادي كريس، أستاذة الأمن السيبراني في جامعة أكسفورد، «هناك عاصفة إلكترونية تتكون ومن الصعب حقًا توقع مدى سوئها». ويصادق الأمين العام للإنتربول على تحذيرها بالقول: «هذا تهديد عالمي وهو يدعونا إلى استجابة عالمية وإجراءات معززة ومنسقة».
بلغة الأرقام فإن العالم يواجه ما يقدر بنحو 10 ترليونات دولار من جراء الأضرار السيبرانية بحلول عام 2025م، إذا لم يجدد آلياته في مواجهتها. دعونا نعود لتقديرات خسائر الحرب العالمية الثانية؛ فقد نشر موقع DW حصراً لأستاذ الاقتصاد السويدي كارل غونار عام 1947م قدر الخسائر المادية لجميع البلدان المشاركة في الحرب بما فيها ألمانيا واليابان لتتراوح بين 100 و200 مليار دولار، وهو يعادل بالقيمة الحالية 7.5 بليون يورو. إذا كانت خسائر عام 2023 تقدر بنحو 8 ترليونات، وبعد عامين 10 ترليونات، فنحن أمام جائحة سيبرانية محتملة لا تبقي ولا تذر.
أمثلة من واقع بعض المعايشة لعامة الناس؛ فبين الفينة والأخرى تُستهدف بنوك، وتتوقف خدماتها المالية، ومطارات تُعطل حركة الملاحة الجوية، ومحطات كهرباء تجعل المدن تغرق في الظلام. شبكات القطارات عرضة للهجوم، والأجهزة والمعدات الطبية كذلك، كما أن المحاولات لا تنام وقد نجح بعضها للولوج لأنظمة التسلح، فكيف لو وصل الجواسيس والقراصنة السيبرانيون إلى مفاتيح أسلحة الدمار الشامل؟
وضع التهديد في مستوى الخطر لا يجب أن يزعج أحداً، وإنما هدفه العمل وفق إجراءات غير اعتيادية للتصدي لتلك المخاطر المحدقة، وليس أقل من ذلك اجتماع دول العالم لتحديث ميثاق الأمم المتحدة، وإبرام اتفاقيات تمنع اندلاع حرب كونية سيبرانية. وكما وضعت معاهدات للتسلح والحد من انتشار أسلحة الدمار الشامل يجب أن توضع قيود ومعاهدات، ويُصادق على مواثيق تنظم هذا المجال وتجعل الدول مسؤولة عن أي تهديد ينطلق من أراضيها، وأن تتوجه الجهود الدولية المشتركة للتصدي للخطر السيبراني سواء أكان مصدره أفراداً أو دولاً، والحد من خطرهم على البشرية.
بدون انخراط المجموعة الدولية في نقاشات جادة، نابعة من إدراك عميق للمخاطر السيبرانية فإن الحلول ستبقى مستعصية، وسيظل الخطر داهماً. لسنا بحاجة فقط إلى صناعة منظومات جديدة لحماية أمن الدول واستقرارها ومكتسباتها ومنجزات الإنسان من خطر التقنية وبخاصة الذكاء الاصطناعي، وإنما إلى ترشيد التحولات الثقافية الهائلة والمتسارعة التي تحدثها ثورة الذكاء الاصطناعي، والذي لا يوظف لمساعدة القراصنة وتسريع وتعميق الأضرار التي يلحقونها بالغير فحسب، وإنما إلى تغيير المشهد الثقافي والاجتماعي برمته وفي كل تفاصيله.