كنت أتابع مسلسل (دفعة لندن) وهو مسلسل خليجي أنتج عام 2023 للكاتبة هبة مشاري حمادة والمخرج محمد بكير، والقصة لمجموعة من الطلبة العرب الذين يجتمعون في مدينة لندن للدراسة خلال فترة الثمانينيات من القرن العشرين حاملين معهم أفكارهم وتقاليدهم وأحلامهم. والمسلسل في قصته يقوم على فكرة (أدب الابتعاث) وهو موضوع أهتمُ به في شكله المكتوب وفي شكل الحوار التلفزيوني.
وفي الحلقة الأولى من مسلسل (دفعة لندن) تهربُ الأميرة ديانا من الصحافة إلى شقة الطلبة العرب الذين يساعدونها في الخلاص من مطاردة الصحافة، وقد استوقفني في الحلقة قول الأميرة ديانا: «إنها المرة الوحيدة في حياتي بأسرها التي شعرت بأنني امرأة رغم ما أمتلكه من الملابس والمجوهرات والعطور والتودد وانتباه وسائل الإعلام، لكن أولئك الرجال أشعروني بأنني امرأة لأنهم رجالٌ حقاً».
ولقد أثار ظهور شخصية ملكية في هذه القصة فضولي المعرفي والبحثي لأبحثَ عن مستندٍ تاريخي للقصة، وأخذتُ أسأل نفسي، هل يكون أحد الطلاب المبتعثين العرب قد كتب عن هذه القصة وبذلك تكون الواقعة حقيقية؟ انشغلت بواقعية التقاء الأميرة ديانا بالطلبة العرب المبتعثين، ولكنني لم أجد إجابة لهذا التساؤل.
وعادة في كتب (أدب الابتعاث) تحيلنا القصص إلى شخصيات واقعية، وكذلك في مسلسلات السيرة تحيلنا القصة إلى شخصية واقعية كما في مسلسل (نزار قباني)، ومسلسل (اسمهان) ومسلسل (أم كلثوم)...إلخ فهل تحيلنا مسلسلات (الابتعاث) إلى شخصيات واقعية لأشخاص طلبة واقعية؟ أم إلى أحداث تاريخية فقط؟ وقد لاحظت أثناء مشاهدتي لهذا المسلسل أن الأحداث التاريخية واقعية أما الشخصيات فإنها فنية خيالية، ففي الدراما قد يكون مجال البحث مختلفاً، ويكون التدخل الدرامي من وجهات نظر الكاتب والمخرج فنياً، ويجعل وجهة النظر في الأدب أيضاً ينظر إليه بشكل مختلف، فننظر إلى السرد القصصي مرتبطاً بالمرحلة التاريخية بغض النظر من يقع في داخل القصة ذاتها.
حرّك مسلسل (دفعة لندن) مزاجي البحثي إلى النظر في طبيعة الشخصيات، وشرعتُ في مشاهدة سلسلة من المسلسلات عن (أدب الابتعاث)، فبعدما فرغتُ من مشاهدة مسلسل (دفعة لندن) بدأت أشاهد مسلسل (دفعة القاهرة) 2019 ومسلسل (دفعة بيروت) 2020 للمؤلفة الكويتية هبة مشاري حمادة، وبعدما انتهيت من مشاهدة سلسلة مسلسلات عن (أدب الابتعاث) وجدتُ أن الفكرة الرئيسة لهذه المسلسلات تقوم على فكرة (أدب الابتعاث)؛ حيث نجد أن مجموعة من الطلاب يقعون في دوامة من الأفكار والطموحات المتناقضة والعادات المختلفة وفي شراك الحب. وترتكز هذه المسلسلات على كيفية تعايش الطلاب العرب واندماجهم في بيئة الابتعاث المختلفة، لتتشكل هوية مختلفة لديهم عبر السفر في دراما تاريخية ورومانسية.
من هنا، بدأت أقارن بين مشاهدة الأحداث في المسلسلات، وقراءة (أدب الابتعاث) بوصفه جزءاً من كتب السيرة الذاتية، فقد درستُ في سنوات ماضية أدب الابتعاث المكتوب وأدب الابتعاث الحواري التلفزيوني، وقدمت عنهما نتائج متعددة، ويمكن الرجوع إلى هذه النتائج في كتبي ومقالاتي العلمية المتصلة بأدب الابتعاث: فيما يخص أدب الابتعاث المكتوب، فقد كانت النتائج تتعلق بأدب الابتعاث الخليجي الذي شاركت حوله بدراسة ضمن ملتقى السرد الخليجي الثالث بأبو ظبي (14-16 مارس 2016م)، وقبلها درستُ برامج السيرة الحوارية التلفزيونية للطلبة السعوديين والعرب، وحللت برامج متعددة عن الطلبة المبتعثين منها: برنامج (سفراء في الخارج) الذي كان يقدمه الإعلامي ماجد الشبل - رحمه الله - وبرنامج (موعد في المهجر) الذي كان يهتم بالمغتربين العرب في العالم. كما قمت بالمقارنة بين أدب الابتعاث المكتوب والمرئي وأدب السفر المرئي للمغتربين السعوديين في الخارج، في ملتقى قراءة النص في نسخته الـ16 بعنوان «تحولات الخطاب الأدبي السعودي في الألفية الثالثة» عام (2020م).
وبعد مشاهدة المسلسلات لاحظت أن الشخصيات فيها لها وضع مختلف عن أدب الابتعاث المكتوب والحوار التلفزيوني، ففي عام (2012م) حينما كنت أشاهد برامج السيرة الذاتية أتفاعل مع الشخصيات إلى حد البكاء أحياناً، وقد تأثرت حتى أدخلت العناية المركزة بسبب تفاعلي الإنساني مع المعاناة البشرية التي يحكي عنها الضيف، فالشخصية الساردة أمامي حقيقية واقعية تحكي عن الصعوبات والمعاناة والغربة والاغتراب وآلامها، فكنت أخرج كثيراً من مشاهدة تلك المقابلات بالإعجاب الشديد من قوة الشخصيات وكيف تشكلت هويتها عبر السفر رغم التحديات والصعوبات التي واجهتها.
بينما في الدراما وجدت نفسي أنساق وراء أمور تختلف تماماً عن (أدب الابتعاث) المكتوب والحواري، إلى أمور مختلفة تماماً كالبحث عن القضايا التاريخية التي تتزامن مع رحلة الطلبة المبتعثين، ولا تتفاعل مع الشخصيات على أنها واقعية بل فنية درامية.
وعند قراءة (أدب الابتعاث) المكتوب نكون عادة مهتمين بقضايا الفرع الأدبي المتفرع من (الأدب الرحلي) والمتفرع من المصطلح الأم (السيرة الذاتية)، ونجد أنفسنا منساقين للبحث في مسألة التجنيس، والاهتمام بتحليل دوافع كتابة أدب الابتعاث، وموضوعاته، ثم تتسع الدائرة قليلاً للموازنة بين كتب أدب الابتعاث.
أما في الحوار التلفزيوني المتعلق بالطلبة المبتعثين فتتسع نظرة الناقد المختص ليحلل البناء اللغوي للكلام المنطوق في سياق الصورة والصوت والاتصال الجماهيري ووجود الآخر المذيع الذي يساعد في عملية الانتقاء ورسم البناء المحكي بحسب أهداف المذيع والبرنامج والقناة. ومن خلال هذا الحوار يتدرج المشاهد مع حديث الأنا بشأن رحلة تحقيق الذات من خلال الآخر، وتبهرنا الذات بمواضع التفرد أو العنصر الجاذب في هذا النوع من الإنتاج الشخصي بحسب استراتيجيات القنوات في إيصال صورة الذات في الوسائط الجماهيرية الإعلامية. كما بينت في كتابي (السرد (السير ذاتي) في الأدب الوسائطي: السيرة الذاتية التلفزيونية أنموذجاً (2012م).
ويشترك أدب الابتعاث الحواري التلفزيوني مع أدب الابتعاث الدرامي في توفير متعة الفرجة أو المشاهدة، بينما في أدب الابتعاث المكتوب يكون القارئ هو من يصنع الخيال ليحقق متعة مختلفة عن المشاهدة الفنية.
وفي هذا المقال أروم توسع مشروعي البحثي في مجال السيرة الذاتية الدرامية الذي كنت قد بدأت فيها بتحليل بعض مسلسلات السيرة مثل مسلسل (ولد ملكاً) ومسلسل (عمر)، وها هو يتسع ليشمل أدب الابتعاث الدرامي، وهو من ضمن مسلسلات السيرة التي تتناول قضايا الطلبة المبتعثين للرحلة العلمية.
وفي الختام، أتوقع أن يضيف هذا التوجه البحثي في مجال أدب الابتعاث الدرامي أبعاداً إنسانية وفنية لحقل السيرة، ويفتح لنا أبواباً جديدة للنقاش، ومعرفة إنسانية يحتاجها المتخصص بالسيرة الذاتية جنباً إلى جنبٍ مع المتخصص بالفن والدراما والإخراج والكتابة الدرامية، وهذه الدراسات من أحدث الاتجاهات المتأمل تواجدها في الأوساط الأكاديمية مع رؤية السعودية 2030.
فالسيرة الذاتية عمق إنساني يتجذر في كل التخصصات وقادرة على التحول في كل فترة زمنية بحسب أدوات الفترة الزمنية التي تتشكل فيها، والدليل تواجد السيرة المقالية والحوارية والروائية والدرامية...إلخ.
** **
أ.د. أمل بنت محمد التميمي - جامعة الملك سعود