يقوم السرد عادة على ثلاثية مهمة (الراوي، المروي، المروي له)، وإذا كنا نفترض -بداهة - وجود (الراوي) في هذه السيرة، ووجود (مروي له) يستقبلها (القارئ الحقيقي) إلا أننا هنا ننتقل من داخل النص إلى خارجه، وقد نعود إلى النص من منظور آخر للقارئ (القارئ الضمني) الذي يتشكل لحظة كتابة النص.
وبالعودة إلى الداخل أيضًا، فهناك (مروي له) متخيل؛ لتكتمل عناصر التواصل السردي بين (المرسل/الراوي) والمُرسَل (ما يروى من أحداث) و(المستقبل/ المروي له) لضمان استمرار الأحداث، وتتابع الحكايات، وانتظامها في سلسلة زمنية ممتدة تتواءم مع التدرجات الزمنية لبناء السيرة، التي تنطلق من تتبع حكاية كاتبها، بالانسجام الزمني نفسه، وإن وظفت تقنيات متنوعة لرصد هذه الزمنية.
وتفترض سير الطفولة -عادة - حضورًا مكثفًا للمروي له في بعد آخر؛ إذ إن ذاكرة الكاتب التي يجسدها الراوي، لا تسعفه كثيرًا في استرجاع أحداث حياته في هذه المرحلة المبكرة بدقة، ومع استرجاع بعضها، تبقى التفاصيل الصغيرة وأسبابها ونتائجها -غالبًا - غائبة عن هذه الذاكرة، بعيدة عن التقاط خيوطها، ونسج حكاياتها من جديد.
ويتشكل هذا (المروي له) في بعض المقاطع السردية السيرية هنا من (الراوي) نفسه، الذي يرسل ويستقبل في الوقت نفسه؛ إذ لا يقتصر دوره على رواية الأحداث، بل يتحول إلى مستمع إلى تفاصيلها أيضًا؛ مما يعينه على مواصلة الأحداث، ويعين الكاتب قبله على كتابتها وفق مستويات مختلفة للحكاية. ومن هنا، يقف (المروي له) في هذه السيرة الطفولية؛ ليكون محفزًا يدفع إلى استمرارية السرد، وهو يستمع إلى خيوط حكاية الطفولة من رواة شاركوه هذه الحكاية، ثم سردوا تفاصيلها، وربما رصدوا ما لم تستجمعه ذاكرة الكاتب ثم الراوي، إما لغيابها عن الحدث نفسه، أو لحضورها الجزئي الذي قد لا يعين كثيرًا على التقاط التفاصيل بدقة؛ مما يعينه على جمع الحكايات، وبروايات مختلفة -أحيانًا - ليحاول إعادة صياغتها، والتوفيق بين ما اختلف منها؛ وليقدمها في هذه الرؤية السردية الشاملة لرواية السيرة نفسها.
ويسعى (الراوي) في كل مرة إلى اختيار راوٍ آخر يسانده داخل النص، وقد يعين باسمه أو صلته بالراوي الرئيس، وقد لا يعين؛ إذ يعتمد على رواة غير محددي الهوية (تقول الحكاية التي وصلتنا بالتقاليد الشفوية من أفواه الرواة) (أن أحدًا رواها لي) غير أن مثل هذه الحكايات قد لا توجه إلى (مروي له) بعينه، وإنما مجموعة (وصلتنا) مما يعينها في جملة الحكايات العامة ذات الأبعاد التاريخية أو الاجتماعية المحيطة بصاحب السيرة، أو المؤثرة في بعض تفاصيل حياته، إلا أنها لا تخصه تحديدًا، وربما لا ترتبط بحدث مباشر من أحداث السيرة.
وعندما يعين الراوي المساند، يقدم الراوي الرئيس بعض العلامات الدالة على حالة الاندماج هذه؛ معللاً ذلك بغياب بعض التفاصيل، ونسيان بعض الأحداث، وسن صغير لا يستوعب الحدث، وقصور ذاكرة لا يسترجع الموقف. وقد لا يعرف حتى بعض من تروى حكاياتهم؛ لأنه لم يلتق بهم كما في (جد الأب) الذي (يتراءى عائمًا في بحر الحكايات التي رويت عنه).
من بين هؤلاء الرواة، تظهر(الجدة) ثم (الأب) وهو يروي بعض حكايات الجدة، لكن(المروي له) يعجز عن التقاط تفاصيل علاقته بالأم قبل الزواج وبعده، ليستعين براوٍ آخر (الأم)، يقول الراوي: (أعتمد في تثبيت هذه الأحداث على مهارة أمي في سرد الحكايات، أما أبي فقد كان يؤثر الصمت، ومن الصعب حثه على الكشف عن تفاصيل حياته، فهو يروي لنا أحيانًا ما يحب قوله، لا ما نفكر فيه، ونرغب في سماعه) فذاكرة الأب انتقائية؛ لذا كانت روايته انتقائية أيضًا؛ وهو ما منح الأم هذه المساحة من رواية الأحداث، وحولها إلى راوٍ مسيطر على تفاصيل كثيرة من حكاية السيرة، وإن كان الدور الأكبر للراوي الرئيس فيها (وقد حاولت تركيب أجزاء القصة المتناثرة من المقاطع السردية التي كانت تبوح بها أمي في إشراقات أمزجتها الرخية).
وتستأثر (الأم) بتفاصيل بعض الأحداث التي غابت عن الراوي (بعد سنوات، ستروي أمي كيف مات أحد أخوالي في شبابه) وتغيب عنها بعض تفاصيل الأحداث العامة المحيطة بحياة صاحب السيرة وحياة غيرها ممن عاصره أو سبقه (رواية أمي لا تتضمن سوى مشاهد قليلة بالنسبة للمأساة التي ضربت الجزيرة العربية المعزولة) ومع ذلك فإنها تمتلك (الموهبة الساحرة التي تفوقت بها على نساء العائلة، جدتي وخالتي وعماتي، فهي راوية الحكايات العجائبية) وهذا النفس الحكائي الذي دعم كتابة السيرة، ظهر أثره في السيرة نفسها؛ حين كانت الأم تروي هذه الحكايات العجائبية للراوي، وصاحب السيرة ومن معه، يقول: (فقد سمعت عنها في طفولتي تقريبًا معظم القصص الشعبية التي جمعها بعد نصف قرن عبدالكريم الجهيمان في (أساطير شعبية من قلب الجزيرة العربية)، إذ تتجلى ا لأنثى هنا بوصفها ساردة للحكايات ومصدرًا مهمًا لها، وما رواية الجدات والأمهات إلا صورة من هذا السرد الذي يغذي مخيلة الطفل، ويعزز مهاراته الحكائية لاحقًا.
ولعل هذا العالم الحكائي الذي دخله ذاك الطفل مبكرًا؛ جعله يقتحم عالمًا يشبهه كبيرًا، وإن كان يبتعد عنه؛ ليكتب حكاية تؤول إلى الواقع لكنها تتغذى من بعض ملامح التخييل.
** **
د. حصة المفرح - جامعة الملك سعود