منيرة أحمد الغامدي
أجلس على الكرسي وقدماي ممتدتان على طاولة القهوة أمامي وهي جلستي المعتادة في إجازة نهاية الأسبوع تحديداً، حيث أتخلى مع سبق الإصرار والترصد عن بعض واجباتي المنزلية، وأستبدلها بما أقوم به من الزيارات الاجتماعية الضرورية، وأخلد معظم الوقت للهدوء الذي أستحق.
هاتفي الجوال يرن وأتساءل حتى قبل أن ألتقطه وأرى الشاشة من يا ترى يتصل بي في الساعة الواحدة فجراً ويقطع سكينتي بمتابعة حفلات روتانا و...
إنها صديقتي وكانت قبل ذلك زميلتي لأكثر من عقدين من الزمان تتحدث بصوت هادئ وحزين « تجين وإلا أجي؟» رديت الآن؟ عسى ما شر؟ قالت في طريقي للعودة من المطار، قلت تعالي. كانت دقائق فقط قبل أن تصل وأعتقد أنها كانت في طريقها لبيتي وعاقدة العزم على الزيارة حتى بدون موافقتي التي تعلم أنها حتمية في كل الأحوال، والاتصال كان إجراء شكلياً.
فتحت الباب ودخلت وتساءلت: عسى ما شر؟ عيونك حمرا! قالت أحس بفراغ بعدما أوصلته للمطار وودعته ولم أغادر المطار حتى أقلعت طائرته، وأخاف الذهاب إلى البيت وحدي.
كانت وما زالت تحبه بلا حدود بكل عواطفها على مدى السنوات التي عرفتها فيها رغم أنه من وجهة نظري لا يستحق كل مشاعرها الصادقة فقد غدر بها كثيراً ويستغلها مادياً أكثر، ولا يربطها به بامتداد علاقتهما الممتدة ثلاثين سنة سوى ابنة تزوجت منذ أعوام قليلة، وخلا البيت دونها وبمفاجأته التي يصدمها بها من حين لآخر، وفي كل مرة تتصل بي تبكي وتتوعّد ولكنها أيضاً وفي كل مرة تسامح وتستمر الحياة حتى لم أعد أصلاً أنصحها وكل ما أقوم به هو الإنصات لها والطبطبة المعنوية لها.
رحلته هذه المرة كما ذكرت هي استثمارية تجارية لكنها ستستمر شهر وربما أكثر فسألتها لم لم تذهب معه فأجابت إنها رحلة لرجال الأعمال ومتسمة بكثير من الانشغال. صمت ولم أرد لأني أعرف صديقتي التي لو ذكرت لها أن وجودها معه وبقاءها في الفندق أو التجول المدينة لن يؤثّر على أعماله فهي لن توافقني الرأي، إذ كانت شبه مبرمجة بأن لا تستفسر ولا تسأل، وإن سألت فالإجابة التي تسمعها منه هي الحقيقة دون سواها.
بقيت عندي لساعات وغادرت رغم طلبي بقاءها عندي ليوم أو يومين لكنها كانت في حالة انتظار لاتصاله الهاتفي بعد أن يصل وجهته وترغب أن تكون متفرِّغة لذلك الاتصال.
الإنصات هو كل ما أقوم به وهي تشتكي لي في كل مرة، وأسترجع حديثها الأخير معي وهي تقول أشعر بفراغ وخواء وكأن لا أحد حولي حين يغيب حتى لو كان غيابه لسويعات، وتزيد أشعر أني أحياناً لا أستطيع التنفس وكأن الزمن يتوقف مع ذهابه وتعود الحياة بعودته.
أما أنا فأتساءل بيني وبين نفسي هل هذه المشاعر حب أو هو تعلق مرضي أم أنها لا تجد مصدراً لتفريغ تلك المشاعر الحنونة التي أراها من وجهة نظري -القاسية ربما- غير مبررة لأنها غير متبادلة على الإطلاق.
مضت ثلاثة أيام دون اتصال منها سوى رسائل صوتيه يومية بيني وبينها وتبادل بعض صور أكواب القهوة التي نتناولها هنا أو هناك، وربما رسائل تتضمن برامج تلفزيونيه نقترح على بعضنا متابعتها. إلا أنها فجأة داهمتني باتصال في غير موعد كعادتها وهذه المرة كانت تبكي لدرجة لم أستوعب معها ما تقول. اهدئي أنا قادمة هذا كل ما تمكنت من إيصاله، وتوجهت فعلاً لمنزلها وقطعت المسافة ما ذا يكون السبب؟
وصلت ووجدتها تفتح الباب حتى قبل أن أصل إليه ودخلت وكانت في حالة يرثى لها شكلياً ونفسياً، وجلسنا، فقالت إن قريبها الذي يعيش في نفس المدينة زوجها التقاه مصادفة في أحد المطاعم مع زوجته وابنه، وأخبره أنه تزوج من عدة سنوات لكنه لا يرغب في جرح مشاعر زوجته الأولى -التي هي صديقتي - ولذا أخفى عنها زواجه.
وتقول إن هذا القريب تردد في إخبارها لكن زوجته اتصلت بصديقتي ونقلت لها الخبر. صديقتي الآن تضرب أخماساً في أسداس وتسألني: ما الذي تقوم به؟ وتطلب المشورة هل تخبره أم تتجاهل أم تذهب لزيارته؟ وطبعاً رأيي لن يقدم ولن يؤخر ولن يؤثر في قرارها الذي اتخذته مسبقاً وهي فقط تفضفض لي ككل مرة وأنا أنصت، وهذه هي أدوارنا بالتحديد في كل قصة على مدى سنوات طويلة ولذا كنت أنتظر قرارها.
تحدثنا ونحن نشرب قهوتنا، ثم تلاها هدوء تام كان يعم الجلسة وكنت أنا خلاله «أهوجس»: ماذا لو كنت مكانها كيف سأتصرف؟ وفجأة قالت وبدون مقدمات «بصراحة بنتي طول عمرها كانت تتمنى أخاً ويمكن الله استجاب دعاءها « ولذا قررت صديقتي في دقائق أنها ستتقبل الوضع وستخبر ابنتها.
كانت قد هدأت نسبياً، وأنا في حقيقتي كنت أغلي في داخلي، لكني تمالكت مشاعري ومددت يدي إلى دلة القهوة وقدمت لها فنجاناً ولي فنجان آخر، ورشفت قهوتي واستمر الصمت وأنظارنا متجهة إلى الفراغ في المكان وفي الصمت غير عارفه بماذا تفكر هي، وما إذا كانت تخطط لحفل لاستقباله وزوجته وابنه أم أنها تخطط لإخبار ابنتها وتتولى هي المهمة نيابة عنها، لكن كل ذلك لا يهم، والأهم أنني سأستمر في الإنصات لها وتستمر هي في الفضفضة، إذ لا أجمل من أن تجد آذاناً تستمع إليك وقلباً ينصت بصدق ومحبة ويتعاطف مع كل قراراتك ويدعمها ويحاول تخفيف وطأة الحالة عليك حتى وإن كانت قرارات تراها أنت غير منصفة لمن تحب أحياناً، ولكن أيضاً متى كانت الحياة منصفة life is never fair كما يقولون لكنها تستمر ونستمر.