حامد أحمد الشريف
لا أزال مؤمنًا بالنظريّة القائلة إنّ قيمة السرد في استدامته، والتعلُّق به، وقدرته على انتزاع ابتسامة الرِّضا والافتتان في نهايته، واعتماده في ذلك على دسامته وقيمته التأصيليّة التي تتكفّل مستويات فهمه المتعدّدة بإنباتها وإيناعها وإنضاج فهمها وأكل ثمارها المتنوّعة، بنكهاتها المتعدّدة: المعرفيّة والفكريّة والفلسفيّة والوجدانيّة... وهو ما يعني قدرتها على إشعال جذوة الحوار حولها لشعورنا الحقيقي بتماسّها مع حاجاتنا الحياتيّة، ومخاطبتها لعقولنا، واستيلادها لبعض الأفكار الأصيلة أو تلك التي انزوت بالتقادم ولم يعد أحد يذكرها، فأتت السرديّة لنفخ الروح في أوصالها وإحيائها مجدّدًا. ولعلّي قد أبالغ أحيانًا فلا أقبل أيَّ عمل ما لم أرَ أنّ الساردَ استطاع بالفعل أن يبقينا على اتّصال بمخطوطته بعد الانتهاء منها، ويأنس بكثرة حديثنا حولها.
ذلك ما شعرت به بالفعل بعد انتهائي من قراءة رواية «منتصف يناير»، للروائي والناقد والكاتب المصري الأستاذ محمود كمال حمدون، التي تقع في 102 صفحة من القطع الصغير، وتعَدّ بالمقاييس السرديّة على اختلافها، أقرب للـ»نوفيلّة» منها للرواية، وإن صعب الجزم بذلك، فهي وإن كانت صفحاتها قليلة، وكلماتها موجزة ومكثّفة، ومَشاهدها مختزَلة، وتمّ الاكتفاء بإدارتها في أغلب أوقاتها بطريقة المنولوج الداخلي على لسان رواتها المتكلّمين المتعدّدين (كصابر وهريدي والضابط عبداللطيف) إلّا أنّها تحمل سمات الرواية إذا ما تناولناها من زاوية أفكارها، والرسالة القيِّمة التي تحملها، ولغتها الأدبيّة الجميلة، وتماسكها السردي، ومفاجآتها الروائيّة المستفزّة لعقولنا، وحبكتها المتقنة، وقيمة الصراع الذي أدار رحاها وطحن حَبّها وأوصل أفكارها، والتجسيد الإبداعي لأبطالها، وبدايتها المشوّقة ونهايتها المدهشة بمفارقاتها المؤوّلة، بحيث يمكننا التعامل معها على أنّها رواية يافعة، أنضجتها إبداعات كاتبها، ولم تعد تلك الـ»نوفيلّة» الصغيرة؛ فالأبناء عندما يُبهروننا بذكائهم ونضجهم، ويفتنوننا برجاحة عقولهم واتّزانهم واستقامتهم وصواب آرائهم، يكبرون في وجداننا وعقولنا، ويعظم تقديرنا لأقوالهم وأفعالهم، ونفخر بهم، فنقدّمهم في مجالسنا بغية اطلاع القوم على أنّنا وُفِّقنا في تربيتهم، ونجحنا في وضع لَبِنَة صالحة في بناء مجتمعنا؛ وأظنّ ذلك ما شعرْت به وقد وصلت إلى كلمة «تمّت» التي تُكرَم عندها السرديّة أو تُهان.
وقبل الشروع في الحديث عن هذا العمل الجميل، لي وقفة مع فصلها الأوّل، تتضمّن عتَبَ محبٍّ للكاتب، فهو وإن كان قد عنون هذا الفصل بـ»شاهد حي» ولم يذكر أنّه مقدّمة للعمل، إلّا أنّه بدا كذلك في مضمونه وصياغته وتذييله باسم الكاتب، فاستحال اعتباره فصلًا من الفصول؛ وإنّما هو توطئة للعمل، تحفظ مكانته الواقعيّة وتربطه بأحداث تاريخيّة عايشها الكاتب في صغره، ووقف على كلّ تفاصيلها، وجمع بعد ذلك قصاصاتها، فكان في حديثه ما يشير إلى أصل الحكاية الواقعيّة التي بُنيت عليها السرديّة التخيليّة. ولأنّ ذلك لم يكن فهمًا صحيحًا، بمعنى أنّ الرواية كاملة هي محض خيال لا علاقة لها بالواقع إلّا كأفكار يراد إيصالها، فإنّني، على المستوى الشخصيّ، لم أقبل بها، واعتقدت أنّ فيها خداعًا للقارئ، واستخدامَ ما يمكن وصفه بالمبالغة السرديّة المتجاوزة حدَّ القبول، لتمرير أفكار الكاتب القيّمة، مع أنّه لم يكن بحاجة لذلك كلّه، فاحتماليّة الواقع والخيال وتضارب الآراء حولها، أمرٌ يُثري الأعمال السرديّة ويرفع من قيمتها؛ في وقتٍ قد يحدث العكس، إذا ما اتّكأت على وقائع حقيقيّة تمّ التنويه بها صراحة. وهو ما جعلني لا أقبل بهذه الفكرة، وأشعر أنّها مثلبة كان باستطاعة الرواية الاستغناء عنها، من دون الإخلال بمقاصدها ورسائلها المضمّخة، وحتّى أسلوبها البنائي. وإن كنت لا أُنكر أنّ هناك نقّادًا كبارًا لا بدّ أنّهم سيمرِّرونها عن قناعة حقيقيّة، وسيدخلونها ضمن قيمة السرد، ويعتبرونها مفتاحًا مهمًا للدخول إلى الأفكار والقضايا التي تناقشها، وربّما أنكروا عليّ عدم قبولي لها.
كلّ ذلك -في ظنّي- يصبُّ في مصلحة العمل. فالأعمال الإبداعيّة وحدها تثير عاصفة من الاستفهامات لا إجاباتٍ حاسمة لها، ويكون الاختلاف والاتّفاق حول بِنيتها السرديّة ومنعطفاتها الأسلوبيّة موضع شدٍّ وجذب. ولعلّي أكتفي بذلك قبل انطلاقي في رحلتي القرائيّة مع مبضع السارد الذي اختار زاوية أصيلة ليخبرنا من خلالها بما يدور في رأسه تجاه مجتمعه الذي ذُكر صراحة في ترجمته لسيرته الذاتيّة الملحقة بالعمل، أنّه مهموم به، في قوله عن اهتماماته: «قاص، روائي، مهموم بالشأن العامّ».
الآن سأتوقّف قليلًا أمام العتبة الرئيسيّة التي انطلقنا منها، وأعني بذلك الغلاف الذي -للحقّ- بدا تصميمه جميلًا، لا سيّما أنّه تمّ توظيفه للإشارة إلى عمق الحكاية، عندما أتى بخيال معتم غير واضح المعالم، يحمل سكّينًا يريد طعن نفسه بها، وإن كانت هذه الإشارة غير محسومة، إذ تحتمل السكّين أيضًا توجيهها لمجنيٍّ يقف قريبًا من الجاني؛ وفق هذا الفهم فإنّ التصميم اقترب كثيرًا من مغزى الحكاية التي اعتمدت -كما سيأتي لاحقًا- على فقدان الهويّة الحقيقيّة للجناة والمجني عليهم، وذهابها باتّجاه الاحتمالات المتعدّدة، غير المحسومة، وإشغالها فكر القارئ بشيء من تحدّي الفهم الذي اشتملت عليه السرديّة في معظم جزئيّاتها، وهو ما يشير صراحة إلى الدور الذي لربّما لعبه الكاتب في تصميم الغلاف، واستخدامه له كعتبة أساسيّة للدخول إلى سرديّته، وأظنّه وُفِّق في ذلك، إذا ما وقفنا أمام العنوان «منتصف يناير» الذي فيه إشارة ذكيّة إلى الحراك المجتمعي المستهدف بهذه الحكاية، دون ربطه بأحداث 25 يناير التي تعَدُّ حدثًا مستقلًّا قائمًا بذاته، بينما أراد الكاتب -فيما يظهر لي- الإشارة إلى تفاعلات المجتمع، وطريقة عيشه المرتبطة بأحداثٍ دوريّة تتحكّم في مصيره، وتعيد توجيه بوصلته. ولم يكن المجتمع هو المعنيّ بذلك التاريخ تحديدًا، أو الحدث المرتبط به، وهو ما يفسّر ذكر تاريخ 15 يناير بشكلٍ واضحٍ وصريح، لتأصيل المعنى المراد وعدم ذهابه باتّجاه معانٍ ليست في ذهن الكاتب، ولا يراد لها أن تظهر في التلقّي المخادع، وإن كان تعدُّد هذه المعاني يأتي امتدادًا للمنهجيّة المعتمَدة التي جعلت كلّ القراءات موضع شكّ، ممّا يؤكِّد أنّ هذه المنهجيّة القرائيّة لم تأتِ عن طريق الصدفة، وإنّما كانت بفعل فاعل. وهو ما يؤكّد بصمة الكاتب، وقدرته على الإمساك بعتبات النصّ جميعها، بدءًا من العنوان والغلاف، وصولًا إلى ظهر الرواية الذي لم يكتفِ كاتبنا، كما جرت العادة، باستقطاعه جزءًا من النصّ الدلالي ووضعه فيه، مقرّرًا استخدام النهاية كبداية تعريف بالعمل. وهو -في ظنّي- اختيارٌ جميلٌ وموفّق، أسهم في التبئير المراد، وساعد القارئ الحصيف على الفهم، ولم يخلُ من إشارةٍ ذكيّة للحالة الإثرائيّة المستهدفة، بل ذيّله بتوضيحٍ مباشر لعمق العمل، ومدلولاته القرائيّة المنتخَبة؛ وهو المأخذ الثاني الذي تمنّيت لو أنّ الكاتب لم يقع فيه، فهو لم يكتب طلاسم تحتاج لتوضيح، بل وضعسيمائيّات وشواهد حقيقيّة، تُوصل إلى المعنى المراد، وتُغني عن التصريح بمغازيه، ولم يكن بحاجة لها. ولا أعلم إن كان سبب ذلك النصائح التي يوجّهها بعضهم للمؤلّف إذا ما تعسّر فهمه، وأعتقد أنّ تلك الحالة التي انتابته عامّة، ينبغي معالجتها، بينما قد لا تكون كذلك.
ولعلّي أختم في هذه الجزئيّة بإيضاح، وهو أنّ بعض الآراء القبليّة قد تضرّ أحيانًا بالعمل ولا تفيده، إن لم يكن المستشار مؤهّلًا لهذه الاستشارة. وينبغي للكاتب، في كلّ الأحوال، الإيمان بكتابته طالما استوفت كلّ الشروط، وترك التلقّي بمستوياته المتعدّدة كجزء من جمال الرواية، فليس شرطًا أن يفهم الجميع مغازي كتاباتنا.
وإذا ما تجاوزنا تلك العتبات الابتدائيّة ودلفنا إلى عمق الحكي، سنجد أنّنا أمام رواية رائعة، استُخدم في روايتها أنواع متعدّدة من الرواة، فكان الراوي المتكلِّم حاضرًا بداية على لسان «صابر»، قبل تركه في يد «هريدي»، وهي مزية جميلة وُفِّق فيها الكاتب، وتجاوز من خلالها ما يُعاب على الراوي المتكلّم، واستثمر ما يميّزه، وهو الأسلوب الذي بدأ يلقى رواجًا كبيرًا، وأصبح كثيرون يفضّلونه، فتعدّد الرواة المتكلّمين حالة وسطيّة، نستحضر من خلالها جماليّة وعمق الراوي المتكلِّم، ولا نبتعد كثيرًا عن تلك الحالة التي نشأ عليها السرد، عندما كان لا يرويه غير «العليم» الذي لم يغب هو أيضًا عن هذه السرديّة، فظهر في كثير من مفترقاتها، ممّا يجعلنا نرفع القبّعة للسارد، في هذه الجزئيّة تحديدًا، إذ إنّه وُفِّقَ في اختياره للمتكلّمين الموكَل إليهم نقل الحكاية نيابةً عنه، وهم بدورهم لم يخذلوه أبدًا.
الآن دعونا نتجاوز كلّ تلك العتبات، رغم أهمّيّتها، ونغوص في عمق الحكاية التي بدا وكأنّها بوليسيّة صرفة، بحكم وجود جريمة، وقتيل وقاتل، ومحاكمة وغموض متناهٍ، وهو ما استدعى تنصُّل الكاتب من هذا الفهم، وإعلانه ذلك صراحة في ظهر الرواية، إذ إنّه كان يخشى بالفعل أن يُنظر إليها من هذا الباب، ما قد يقلِّل من قيمتها، فهي بالفعل ليست بوليسيّة، وإن تماسّت مع هذا النوع من الروايات في بعض جزئيّاتها لأسباب تتعلّق بجوهرها. وإذا ما وافقناه على رغبته تلك، وتماهينا معها، فلا أظنُّنا سنتجاوز نقطة تبئيرها النفسيّة التي نهض بها القاتل الافتراضيّ «صابر»، وظهر يعاني بالفعل من اضطرابٍ معيّن، دفعه للصمت وعدم دفع التهمة عن نفسه أو الإقرار بها، وذهابه باتّجاه إدارة الحوار مع نفسه بطريقة أوحت بمعاناته النفسيّة. وقد أجاد السارد في صنع هذه الشخصيّة بتجاذباتها المختلفة، واستطاع توظيفها لخلق صراع مثير يأخذ بتلابيبك نحو النهاية، وأنت تحاول الاقتراب منه، وتجتهد لفهم نمط تفكيره وتحليل عقده النفسيّة التي وظّفها لإخفاء الحدث الأهمّ، وأعني بذلك جريمة القتل، إذ كانت المشاهد التي حضر فيها البطل -سواء أكان ذلك في صمته أو في حديثه مع نفسه- جميعها مثيرة، ومستفزّة لك كقارئ يجتهد لفهم ما يحدث، ويحاول بصبرٍ نافذ تتبُّع سيرورة الأحداث ومعرفة ما سيحدث لاحقًا.
لقد منح هذا الأسلوب الكتابي المميّز السردَ شيئًا من الغموض المحبّب، كما أنّ السارد أجاد أيضًا في تقنين السرد، ومنحه صفة النخبويّة بمخاطبته لعقول القرّاء، فكان متمانعًا في كثير من المواقف، ومقتّرًا في مواقف أخرى، ومفصحًا في بعض المواقف التي تستدعي ذلك. فكان تنظيم السارد لمساحات الحكي لافتًا، قادنا للتماهي مع العمل ومتابعته حتّى النهاية، دون كللٍ أو ملل. ولعلّه من المناسب القول إن ما قام به المؤلِّف يعَدُّ حالةً رائعة للسرد المتّزن، الذي يعلم جيّدًا ما يقال وما لا يقال، دون إفلات القارئ من بين يديه حتّى بلوغ النهاية، والسرد لا يزال يسير بسرعة متوازنة ومنتظمة، وبتماسكٍ عجيب. وكان ذلك كلّه قد غُلِّف بلغة أدبيّة جميلة وعذبة، لا تخلو من الصور الشاعريّة، رغم بساطتها وعدم تكلُّفها، واشتغالها على المعاني المراد إيصالها في أغلب أحوالها.
كان ذلك مجرّد وصفٍ بسيط لمحدّداتٍ روائيّة امتاز بها العمل، لكنّها لم تكن عنصرَ جذبه الأساسيّ والكبير، فقيمة هذه الـ»نوفيلّة» تكمن في عمقها الذي ظهر باذخ الثراء واسع الحيلة، استطاع السارد توظيفه من البداية إلى النهاية بتماسكٍ كبير، وبصورة متقنة، رغم تماديها في النهاية وخلقها مفارقة غير متوقَّعة، ودهشة مستفزّة كان لها قيمة كبيرة في إيصال رسالتها الرائعة التي قد لا يستطيع الجميع فهمها وإدراكها، وتتمتّع بمستوى فهمٍ عميق يقلّل نسبة المجتمعين حوله بشكل كبير، لكنّها قُبلت وأصبحت ممّا يميّز هذا العمل، وما ذلك إلّا لأنّ السارد لم يُغفل مستوى السرد الأوّل أو القشرة السطحيّة التي وظّفها بطريقة رائعة لإمتاع القارئ العاديّ ودفعه لمتابعة القراءة حتّى النهاية، واختياره عدم الصدام معه إلّا عند بلوغ النهاية. وقتها قد يجد القارئ العاديّ شيئًا من عدم القبول، عندما لا يجد النهاية التي يبحث عنها، ويظهر له أنّها تُركت مفتوحة على مصراعيها، وتحتمل كلّ الاحتمالات. وهو أمر قد يخلق إشكاليّةً بسيطة مع القارئ العادي الباحث عن النهايات التقليديّة أو من يدفعه فضوله لمحاولة تعقُّب السرد بحثًا عن نهاية يتمنّاها، لكنّها -يقينًا- لن تكون كذلك مع القارئ الذي يبحث عن مستويات الفهم المتعدّدة، ويستمتع بإشغال العقل في فهم الحكاية؛ وهو ما ظهر بوضوح مع دخول «هريدي» على الخطّ، والتحقيق الذي جرى معه، والنهاية التي آل إليها... من هنا يمكننا استنتاج القيمة الحقيقيّة للعمل، والفكرة الأصيلة التي بني عليها، ونحن نشاهد تجاهل نتائج التحقيق واتّخاذ إجراءات لا تتّفق معها، فكان فيها إشارة واضحة إلى مغزى خفيّ يبتعد كلّيًا عن المعاني الظاهرة في الحكاية، تأخذنا بعيدًا عن مظهرها الخارجي أو مستوى تلقّيها الأوّل؛ فصابر، والشيخ عبدالجليل، والضابط عبداللطيف، والرجل الخفيّ الذي قرّر النهاية وهيّأ المشهد لها، جميعهم كانوا أدوات وظّفهم السارد بذكاء شديد لإيصال فكرته الأساسيّة، مستخدمًا بعض السيميئيّات الدلاليّة للمساعدة على فهمها، كحديثه عن النُّصب التذكاري الذي أقامه أهل القرية تخليدًا لمصرع الشيخ عبدالجليل، وكذلك إتيانه بمفردة مصريّة جميلة «المدعوق»، للدلالة على تغييب البطل «صابر»، والتقليل من أهمّيّته، والتي يمكن أن يُفهَم منها ما يريده السارد من أخذنا معه باتّجاه الحكاية الحقيقيّة التي لم يكن صابر إلّا وسيلة للوصول إليها، مثه مثل كلّ الصراعات الوهميّة والأبطال الوهميّين الذين وُظّفوا جميعهم -كما أسلفت- بذكاءٍ شديد، لتحقيق بغيته الرئيسة. فالمغزى الذي يريده ربّما يتعلّق بالأصنام التي نشيّدها بأيدينا ونمنحها القدرة على قيادتنا، ونرفض لاحقًا التخلّي عنها مهما ظهر زيفُها. وهو واقع نعيشه بالفعل في معظم المجتمعات الإنسانيّة، إذ إنّنا نكره التغيير، ونقاتل من أجل استمرار قناعاتنا وحضورها في حياتنا من دون اختبارها أو إعادة دراستها وفهمها، بل قد نقاتل مَن يريد تبصيرنا بها، وقد لا نحتاج لتوظيف قوانين «بوب بايك» التي تطلب منّا صراحةً في نقل الخبرات المعرفيّة والمهاريّة جعلَ الجميع يردّد ما نقول، وأنّهم سيفعلون ذلك إن طلبناه منهم وآمنّا بقدرتهم على فعله. فنحن ربّما جُبلنا على ذلك في تنشئتنا المجتمعيّة، فالانقياد -كما هو ظاهر- أصبح سمةً غريزيّة يمكن مشاهدتها في أغلب المجتمعات، ذلك أنّ القطيع ظاهرة إنسانيّة لا ينفكّ منها إلّا المتنوّرون، إن لم يذهبوا باتّجاه القطب الآخر ويبتعدوا عن المنطقة الرماديّة ال دافئة التي تعَدّ أفضل المواقع للحضارات الإنسانيّة، وهو ما نعني به أنّنا غالبًا من ننحاز لما يقال لنا بالفطرة أو نصطدم معه، الأمر الذي رافق نشأة الخليقة؛ فعلى مرّ العصور نجد الإنسان يرفض التغيير، ويقاتل من أجل البقاء على موروثه الديني والثقافي والاجتماعي، وخلال ذلك لا تهمّه الحقيقة بالمطلق، أو يرفضها كلّيًّا. ولكن، هل اكتفى السارد بذلك؟!
في ظنّي إنّ الأمر متعدٍّ يتخطّى البُعد الاجتماعي ويصل إلى البُعد السياسي، وإن حاول الكاتب التملُّص من ذلك، واجتهد في إخفائه بالقدر ذاته الذي أظهره فيه، وكأنّه يريد تمريره بعيدًا عنه، وتحت مسؤوليّة القارئ الواعي، إمّا خشيةً من مقصلة الرقيب، أو إمعانًا في توظيف مستويات الفهم المتعدّدة التي يَظهر أنّ الكاتب يعيها جيّدًا، ويوظّفها في كتابته بشكلٍ مميّز وجميل، تاركًا الزوايا «التبئيريّة» والخطوط المتشابكة للعمل تحت مسؤوليّة القرّاء، وكأن لا علاقة له بها، وهو ما يمكن فهمه والقبول به؛ فالكتابات الإبداعيّة تأخذ بالفعل هذا المنحنى المستقلّ في الفهم، وتخلع عباءة الكاتب، وقد تتصادم معه، فهي تحتمل شيئًا من الفوضى الإبداعيّة المتعارَف عليها، ولكنّها في هذه الحالة تتعلّق بالقراءة لا بالكتابة، والشاهد هنا أنّ ما يحدث في الحراك المجتمعي، وعند البسطاء، في ميلهم الشديد لوجود أصنام يعبدونها، ويطوفون عليها، ويقدِّمون لها صنوف الولاء بتنوّعاتها الكبيرة التي تشمل الموروثات الدينيّة والاجتماعيّة وحتّى السياسيّة.
كلّ هذه قد يأتي من يوظّفها ويستغلّها في الهيمنة على الشعوب. ولا أظنّ عاقلًا يمكن أن يُبعِد هذا الفهم للحكاية عن البُعد السياسي المعتبر الذي توجد سيميائيّات متعدّدة تشير إليه، كقوله: «جاءه صوت من رأس طاولة الاجتماعات بالقاعة، يجلس بعيدًا، يكاد الكلّ يعرفونه، يجلّونه، ويهابونه: نعمة كبيرة أن تجهل بعض الشيء؛ فالمعرفة الكاملة نقمة على صاحبها، ثمّ تذكّر يا سيادة «اللواء»، ومبارك أولاً على ترقية تستحقّها عن جدارة، تذكّر أن خلق الصراع، أفضل كثيرًا من حلِّه، فتقريرك، وافٍ شاف، ألقى الضوء الباهر على ما كنّا نجهله، هنا عتبتك تقف عندها، لا تتجاوزها، إلّا أن يؤذَن لك». انتهى.
ولعلّه، من خلال هذه الفقرة، تتّضح قدرة النصّ السردي على تمرير بعض الأفكار الجميلة التي تشير إلى توظيف العلم والفكر في التسلُّط على البشريّة، فالمتحدِّث هنا استخدم لغةً راقية وأفكارًا خلّاقة لتمرير أوامره، وجعلها قناعات لدى العبد المأمور. وهذا بُعدٌ رائع للعمل يُظهر قيمته، عندما لم يفوِّت مثل هذه الجزئيّات الصغيرة في صنع الأتباع، وضمان تفانيهم وإخلاصهم. ونحن نرى الشخص المجهول يمرِّر فلسفته للموقف والمعاني المستقاة منه، وهو يذكِّره بأنّ عليه ألا يحاول فهم المشهد كاملًا، فقد يُزهق روحَه مثلُ هذا الفهم، قبل أن يذكِّره بالجزرة التي مُنحت له، ويختم بالحدود التي وُضعت له في التطبيق، وأنّ عليه عدم تجاوزها. ذلك يجعلنا بالتأكيد نُقحم العمق السياسي في الحكاية المسرودة، ولا نرضى أبدًا عمّن يحاول إبعاده، حتّى وإن كان الكاتب نفسه. فهذه اللهجة تشير بوضوحٍ، وبشكل لا لبس فيه، إلى العتبات السياسيّة التي تحدِّد مساحات الشغل الممنوحة للأفراد داخل المنظومة، والمنهجيّة العلميّة المتّبعة في تجهيزهم للطاعة العمياء. وهو أمر لا يعَدُّ جديدًا، فكثير من المسلّمات المجتمعيّة، والعادات والتقاليد، والأفكار التقدُّميّة أو الرجعيّة، لا تسلم من استهدافٍ وتوظيف، تعمل عليها جهات مدرَّبة على أعلى طراز، تجيد استغلالها في بسط هيمنتها على الشريحة المستهدَفة، والحصول من خلالها على نتائج عظيمة. وهو ما يشير إليه المشهد السابق الذي أتى في نهاية السرديّة وبيّنَ بشكلٍ واضح أنّ كلَّ ما جرى لا يعدو أن يكون مفتعلًا، أو، على الأقل، تمّ استثماره رغم عفويّته وواقعيّته وصدقه، من جهات عليا، ترى إمكانيّة تحقيق بعض النتائج إن تمّ احتواؤه، والتلاعب به، وتحريكه في الاتّجاهات المستهدفة التي تخدم أجندات معيَّنة. وهو أمر ملاحَظ، وليس بدعًا الحديث عنه أو توظيف العمل السردي لفضحه.
وكأنّي بالكاتب، بذكائه الملاحَظ، وقد خصَّص له هذه المساحة الصغيرة، يشير إلى أمرٍ غاية في الأهمّيّة، وهو أنّ الألاعيب السياسيّة أصبحت مفضوحة يفهمها القاصي والداني، وقد تستدعي تبسُّمنا أو حتّى ضحكنا، رغم قيمتها العلميّة واتّكائها على نظريّات تطوير الذات واستنهاض الهمم. لذلك، اكتفى بالتنويه بها فقط، ولم يجعلها محورًا كبيرًا يقف عليه العمل السرديّ، وأظنّه وُفِّق في ذلك أيّما توفيق، فالسياسات العربيّة ما زالت تمارَس بالطريقة نفسها، والمنهجيّة السابقة، من دون تغيير، رغم افتضاحها وفهم أغلبنا لها، وإن كانت الفكرة ممتدّة، تتجاوزنا إلى كلّ العالم تقريبًا؛ فالسياسة تشرب عادةً من معينٍ واحد، والفرق يكمن في الأواني المستخدَمة، فبعضهم تطوّر كثيرًا، بينما لا يزال البعض الآخر يستخدم يدَيْه لإيصال الماء إلى فمه.
وحتّى لا يقال إنّ القراءة تجرّ الكتابة إلى مواطن لم يستهدفها الكاتب، فإنّنا نشير إلى عدم تنفيذ جميع القرارات التي توصّل إليها اللواء عبداللطيف في نهاية تحقيقه مع «هريدي»، وتعمّد الرجل الكبير (الذي غُيِّبت شخصيّته عمدًا كنوع من التورية الجميلة التي تخلق لنا مساحةً للتوقُّع وإشغال العقل في فهمه) عدمَ التقيُّد بكلّ مخرجات التحقيق، وتركه أو تغافله عن الجزئيّة التي هدفها الأساس القضاء على أيّ اضطرابات محتملة؛ وفي ذلك إشارة ذكيّة إلى رغبةٍ عليا قرّرت إدارة الصراع وتوظيف مثل هذه المواقف في الأوقات التي يراها المهيمن على كامل المشهد مناسبة. وهو ما يجعلنا لا نستطيع، في نهاية الأمر، استبعاد التوظيف السياسي للسرد، وإن لم يتمَّ التصريح بذلك.
في كلّ الأحوال، بدورنا يمكننا اختزال هذه الجزئيّة وتوريتها، إن أردنا الابتعاد عن دهاليز السياسة وخطورة التعاطي معها، بقولنا إنّ هناك جهات غير معروفة تعمل على الاستخدام الممنهج لمثل هذه الحوادث العرضيّة، ويتمّ الاستفادة منها لاحقًا عندما تُرى نتائجها.
وختامًا، أظنّنا بحاجة للذهاب باتّجاه مراد الكاتب الذي اجتهد في الأخذ بأيدينا لترك كلّ ما سبق، وتسليط الضوء على المجتمع، عندما جعل منه محرِّكًا أساسيًا لكلّ هذه الصراعات المميتة التي تكاد تقضي عليه، هذا المجتمع الذي عمل جاهدًا على إخفاء هذا الدور الانتحاري الذي يلعبه، واختار بمحض إرادته تسمية كلّ ضحية تسقط نتيجة هذه السياسات التي يرعاها هو ويقودها، بالـ«مدعوق».