د.عبد العزيز سليمان العبودي
بدأ تداول مصطلح «ريادة الأعمال» قبل بضعة عقود من الزمن. والآن، يكثر النقاش ويتشعب عن هذا المصطلح وما يخصه من موضوعات، وتُطرح من أجله الدورات وورش العمل، وتقام له كذلك المسابقات، ويؤلف عنه كتب ومقالات. حتى أصبح رواد الأعمال نجوماً وقدوات للعديد من الشباب. فيترك الشاب جامعته لتأسيس شركة أو مؤسسة، محاكياً بذلك بيل جيتس أو ستيف جوبز. ومع الوقت، بدأت ريادة الأعمال تتراجع وظيفياً، ليأخذ مكانها مهنة «صناعة المحتوى». لذلك يعتقد بعض الخبراء، بأن وظيفة صانع المحتوى ستكون أحد أهم الوظائف في المستقبل القريب. وفي هذا السياق، أطلق ديفيدسون مسمى «اقتصاد العاطفة» على هذا العصر، حيث يلتقي غير المنتجين مع غير المستهلكين لتبادل السلع. والسلع الافتراضية هنا هي المحتوى. وبناء على ذلك، يمكن تحقيق الدخل من خلال هذا الجمهور، عبر صناعة محتوى أعلاني مباشر عبر اليوتيوب مثلاً. وهذا الأمر لا يتطلب خبرة سابقة، أو الالتحاق بجامعة عريقة، أو حتى إنفاق آلاف الريالات على حضور المؤتمرات وورش العمل. هذا الاقتصاد صنع وسيصنع قطاعًا جديدًا بالكامل من الوظائف، مما يسمح للناس بتحويل أفكارهم ومهاراتهم وإلهامهم إلى نقود. وصناعة المحتوى، قد يتم توظيفها، لتستبدل بعض الوظائف التقليدية. فعلى سبيل المثال كان الخيار الوحيد للمُدرس، هو العمل في مدرسة أو جامعة، أما الآن فلديه العديد من المنصات التعليمية، التي يستطيع العمل من خلالها مثل: Udemy, OutSchool وغيرها. وكانت درجة الماجستير في إدارة الأعمال، تكلف ما يقارب 100 ألف ريال للحصول عليه. أما الآن فهناك متخصصون يقدمون معارفهم ومهاراتهم في الأعمال والتمويل من خلال دورات أو كتب تقل تكلفتها عن 100 ريال. فأصبح التعليم أسهل وأرخص، وأكثر عملية من السابق. والآن، حتى لو لم يكن لديك جمهور، فيمكن الوصول لهم عبر منصات مثل Medium أو YouTube أو TikTok وبناء الجمهور من الصفر.
يمكن القول إن صانعي المحتوى هم رواد أعمال مبدعون، ولكن في مهنة أخرى متكاملة لها قواعد مختلفة. حيث إن رواد الأعمال يتكسبون من خلال عمل تجاري. فمنتجهم هو شركتهم وعلامتهم التجارية، ويسعون إلى تقديم قيمة لعملائهم المستهدفين، ومؤشر الأداء الرئيس لديهم، هو المبيعات. أما صانعو المحتوى فمكسبهم يأتي من إنشاء المحتوى، ومؤشر الأداء الرئيس لهم هو مقدار مشاركة المحتوى. ويتم ذلك من خلال طرح محتواهم عبر منصتهم الإعلامية سواء كانت مدونة نصية، أو بث صوتي أو مرئي، سعياً لتقديم الخدمة إلى الجمهور المستهدف. ولذا يمكن القول إن صانع المحتوى، هو في الحقيقة رائد أعمال، يعمل من خلال نفسه، ويصنع شيئًا من لا شيء. فالمهنتان تتوافقان من حيث إن إحداهما تغذي الأخرى. فإذا كان هناك جمهور متفاعل، فيمكن تحويل بعضهم إلى عملاء، والعكس صحيح. لكن مهمة صانعي المحتوى أولاً وقبل كل شيء هي التواصل. فوظيفتهم هي إنشاء المحتوى من أجل الكسب. ومثلما يوجد رواد أعمال مختلفون، يعملون في صناعات مختلفة، فصانعو المحتوى مختلفون، ويعملون في وسائط ووسائل مختلفة.
أصبح إنشاء المحتوى مهنة حقيقية، وبدأت مراكز التدريب بإنشاء دورات تدريبية حوله. فنشأ الجيل الحالي وهو يستهلك محتوى أكثر من الأجيال السابقة. فأبطالنا الآن هم من نراهم على شاشة الجوال، ومن الطبيعي أن يرغب أبناء هذا الجيل محاكاتهم وتقليدهم في المأكل والملبس وغير ذلك. ومع التسارع في التغيير، بدأ الطلب على المهن التقليدية بالانخفاض، وذلك بسبب الذكاء الاصطناعي والأتمتة، ليجعل من صناعة المحتوى أحد أهم المهن المستقبلية. يقول هانز مورافي: «سيعمل نصف البشر لتسلية الآخرين، بينما تدير الروبوتات الصناعة». ويعتبر إنشاء المحتوى جزءاً من التسويق في مجتمعنا الحالي، حيث تهيمن التكنولوجيا الرقمية عليه. فالمحتوى يخدم غرضا واحدا وهو التواصل مع الجمهور. بما يعني أنه مع كل جزء من المحتوى، فإنك تدخل في اتفاقية مع المتلقي، ليستفيد بطريقة أو بأخرى من قضاء بعض الوقت في استعراض محتوى معين من المعلومات والترفيه، وما إلى ذلك. ويمكن الاستفادة من خلال ذلك لترويج فكرة، أو لاكتساب عدد من المتابعين الجدد، بأسلوب يساهم في زيادة المبيعات أو العملاء.
أحد أبرز الأمثلة لرواد الأعمال عبر صناعة المحتوى، هو جيمي دونالدسون من خلال قناته MrBeast الذي يصنع محتواه عبر مقاطع فيديو يبثها خلال اليوتيوب، وتصنف بأنها مناسبة للصغار والكبار. تحتوي هذه المقاطع على تحديات، وردود أفعال. كذلك، يوزع دونالدسون جوائز مالية ضخمة خلال هذه المقاطع، ويرى أن الجوائز تشكل عاملاً مهمًا في تفاعل المتابعين. ويتم رعاية العديد من مقاطع الفيديو هذه، من قبل شركات مختلفة من خلال صفقات تجارية، لتظهر كإعلانات. غالبا ما يجمع إنشاء المحتوى في التسويق بين الرسائل الخاصة بال علامة التجارية والمواد التعليمية والتثقيفية لما يخص الصناعة المرتبطة بالمنتج. وبهذه الطريقة، يتم إبلاغ الجمهور بموضوع معين دون أن يظهر كتسويق احتيالي. ويهدف المحتوى التثقيفي إلى إضافة قيمة للمنتج. ومن الأمثلة لذلك أن يقوم صانع المحتوى بجمع معلومات عن صناعة القهوة، ويذهب إلى أماكن زراعتها ويصور عملية القطف حتى وصولها إلى كأس القهوة، ويكون هذا الكأس مرسوماً عليه شعار أحد أماكن تقديم القهوة.