د.أحمد يحي القيسي
لا شك في علو كعب الهايكو، ونأيه عن متناول المتسللين إلى حيز خصوصيته دون وعي، فهو على قصره نص عصي على الإبداع، ومكمن صعوبته لا في اشتراطاته القاسية فحسب، بل وفي تخليه عن مكونات الشعرية التي اعتادتها الذائقة العربية كالمجاز والأخيلة والأنسنة وما سواها من زخارف بيانية من شأنها أن تبهرج وجه النص.
وقد غدت خصائصه الصارمة تعلة لإقحام النص الباهت والركيك إلى منصات القراءة الجماهيرية - دون تحرج - تحت عزاء التقيد بما تمليه عليهم تقنياته والحفاظ على بنيته.
أما الأديب الذي جُبِلَ على هدهدة الجمال فلن يرتضي الهوان لحرفه، بل سيظل وهاجسُ التألق في صراع حتى يتغلب على المعيقات التي تقف دون نصٍّ لافتٍ يزاوج بين جمالية اللغة ومقومات الهايكو، ولعل في تجربة الأديبة السورية مانيا فرح ما يؤيد هذه الرؤية، حيث يثبت نصها أن بمقدور هذا الفن الاصطفاف إلى جانب الأنواع الأدبية الأخرى، ويفوقها بدهشته أحياناً.
ففي نصوص مانيا تستمد اللغة أولى أدبياتها من جمالية المشهد ذاته، ومن الأسلوب الذي تطرقه للتعبير عنه، فهي لا تلتفت للصور المُشاعة التي استباح دهشتها التداول، تأمل على سبيل المثال قولها:
«لوهلة
ترقص مع الموسيقى
ستائر غرفتي»
كما يعد انتقاؤها للألفاظ التي تتضمن حمولة شعرية رافداً آخر يستقي منه نصها الأدبية، وإن كانت تراكيبها تتسم بالوضوح والمبُاشَرَة وتحاشي التعقيد، تقول:
«صباحٌ ضَبابيّ،
كِلانا يبهُتُ لونُهُ
يا زهرةَ النّرجس»
فمفردات «الصباح، الضباب، النرجس» في هذا النص، وكذلك مفردات «الرقص، الموسيقى، الستائر» في النص السابق من الألفاظ التي يسري في شرايين دلالاتها وهج الشعرية المستمَدُّ من الذاكرة الثقافية.
وأخيراً، هذه باقة مختارة من نصوص ديوانها «تقاسيم على ورق» :
لقاءٌ مؤجّلٌ -
أمام المرآة
أجرِّبُ ضحكتي.
* * *
إلى الردهة المظلمة
من علَّمَ القط
أن يمشي بحذر؟
* * *
ليلِ الخريفِ؛
لماذا أُصغي
إلى وقعِ الخطوات؟
* * *
أكثرُ تقوسًّا
في مسائِي الخريفيّ
ظلالُ المارةِ
* * *
حافة الطريق
العوسجُ المتكئُ
يفرشُ للأقحوانةِ ظلًّا
* * *
برْكةُ الوحل ِ
بالكادِ أنتزعُ ظليِ