(1)... بغلاف سماوي، تتوسطه سلَّم أو درج يحف بها -أو به- نباتات خضراء منتهاها الأعلى غيوم وسحاب وسماء وما يشبه (الهلال) الوليد في أول ابتدائه وهناك - في الأعلى نقرأ: معارج البوح ومع أول الدرجات أو السلم نقرأ صالح بن أحمد السهيمي!!
يا لهذه (العتبة) الموازية التي تستدرجنا كقراء إلى التماهي مع هذا العنوان ومع هذه العتباتية التي يشير النقاد والدارسون إلى أنها مبحث ناجز وأساس في التركيبة النقدية المعاصرة منذ أن توجها – مفاهيمياً – الناقد الغربي (جيرار جينيت)، وحاكاه – فما بعد – نقادنا العرب/ المغاربة (أولاً) ثم المشارقة (فيما بعد)، ووصلت إلى مشهدنا الثقافي ومدوناتنا النقدية (السعودية).
هذه العتبات/ باختصار شديد هي: معابر وآليات ومداخل لتلقي النّص – أياً كان (مقالة/ خطاباً/ رواية/ شعراً قصة، مسرحية...) فهي أول المؤشرات الدالة على عالم النّص والموجهة للقارئ/ المتلقي لمراودتها ومعرفة علاقتها بالمتن، واكتشاف حمولاتها ودلالاتها والتعامل مع بنيتها للوصول إلى خبايا النص ومراد الكاتب/ المؤلف.
والعتبات -أيضاً- هي كل العناصر اللغوية والبصرية المحيطة بالنّص وأهم تلك العتبات هو (العنوان) الذي نعتبره أباً للنّص، وتسمية له، وهوية دالة على ما فيه، وتعريفاً به، واختزالاً لمقاصده.
ومن مجمل الدراسات النقدية المتعالقة مع هذا الموضوع نجد أن لها عديدا من التسميات مثل النصوص الموازية، أو مداخل النص، أو عتبات الكتابة... وغيرها ولها تقسيمات وتفريعات، فمن عتبات داخلية، إلى عتبات خارجية إلى عتبات بينية.
وللأهمية المذكورة أعلاه، سنحاول اكتشاف العتبات التي يتعامل معها النّص المنتمي للقاص/ الأديب صالح أحمد السهيمي عبر مدونته (معارج البوح)، الصادرة عن دار تكوين بجدة، في طبعتها الأولى عام 1444هـ/ 2022م، والتي شرعن لها هويتها وجنسها الأدبي فقال إنها: قصص قصيرة جداً!!
ولعل القراءة الناقدة ترى رأياً آخر غير الذي سكه المؤلف الكريم لهذا العمل الأدبي الجميل.
* * *
(2) ومنذ البدء تتوقف المقاربة الناقدة أمام العنوان الذي اختاره المؤلف شعاراً ولافتة (معارج البوح) هذه الكلمة الثنائية تعطيك مفاتيحها ودلالاتها بكل وضوح، فالمعارج جمع (معراج) أي السلَّم، الدرج، الفضائل والنعم، المصعد، الارتقاء، مكان يصعد إليه ومنه معراج النبي صلى الله عليه وسلم ليلة إسرائه!!
و(البوح) يعني كشف السر، وإظهار ما في النفس، والإعلان والجهر بالشيء والحديث المعلن...
وباجتماع هاتين الكلمتين تكونان جملة من مسند ومسند إليه، أو مضاف ومضاف إليه ولعلها تعني – في إحدى القراءات – الرحلة الزمنية التي يتصاعد فيها فن القول والحديث من الذهن والذاكرة والنفس إلى الورق كتابة مقروءة.
وهذا ما تمثله هذه المدونة القصصية من بوح جميل ورائع، وجهود إبداعية جديدة لم يصل إليها المؤلف إلا بعد صعود وارتقاء عبر (درج وسلالم) المعرفة والفن الإبداعي القصصي.
ثم جاءت الأيقونات الفنيّة (تصميم الغلاف) ليتخذ من السلم/ الدرج ما يوحي بـ(المعارج)، والغيم السماوي هو (البوح القصصي) الذي تشكل في (ست عنوانات رئيسة) يتفرع عنها (ثمان وخمسون قصة) هي كل البوح الذي باحت به نفس الكاتب/ القاص/ المؤلف صالح السهيمي وشخوصه القصصية وثيماتها المجتمعية، وشكلت هذه المدونة القصصية!!
ومن هنا تتجلى قدرة المؤلف/ الكاتب على اقتناص العنوان الرئيس للمجموعة وهو من خارج المدونة، فلم نجد نصاً بنفس هذا العنوان!! ولكني قرأت له مجموعة قصص قصيرة جداً نشرها في الجزيرة الثقافية وأعاد التغريد بها في تويتره وفيها نص بعنوان (معارج البوح) وأستغرب أنه لم ينشرها في هذه المجموعة القصصية؟! ولكنه أورد نصاً قصصياً يشير إلى (البوح) ودلالاته بعنوان: (التي باحت) ص 30، وعنواناً لأحد الفصول/ المحاور بعنوان (بوح سردي). ومن ذلك – فيما أعتقد 0 اشتق العنوان الرئيس/ العتبة العنوانية!!
* * *
(3) ونتجاوز عتبة الإهداء التي تتكثف فيها اللغة، وتتألق الدلالة، وتثبت التشظي المتقن للعتبة الغلافية والعتبة العنوانية، فيتكرر فيها معارج البوح/ العنوان، ويشير ويلمح – ولا يصرح – بمن يهديهم المجموعة القصصية وهم (الإشارات الجميلة في الحياة) اللواتي يهديهن (معارج البوح)؟! ويتساءل القارئ من هنَّ هؤلاء (الإشارات الجميلات) في حياة المؤلف؟!
وإذا وصلنا إلى عناوين الفصول التي تنتظم تحتها هذه النصوص القصصية لوجدنا التشكلات العجيبة فهي أولاً: (ستة) فصول أو محاور:
- تراتيل سردية (عتقها الظلام وأسكرها الليل).
- عزف سردي (على أوتار الأحاديث المعلقة).
- بوح سردي (حين يعزف لروحها الهائمة).
- شذرات سردية (عزف المتصل والمنفصل).
- اللاءات الكبرى (؟!).
- ضمائر سردية (عزف منفصل يشعر بالاستقلال).
من هذا المسرد العنواني يلحظ القارئ الثنائيات التقابلية وهي ما يفسر ثنائية العنوان الرئيس، إلا أن الملاحظ ورود فصل (اللاءات الكبرى) خارج الرؤية (السردية) التي تنتظم كل العناوين قبلها وبعدها، مما يدل ويشير إلى أفق كتابي مختلف ليس هذا مكانه ولكنه أقحم بشكل واعٍ/ مقصود لكسر الرتابة العنوانية!!
في هذه العنونة الخاصة بفصول المجموعة القصصية تتضح العقلانية التأليفية، فالكاتب/ المؤلف عند جمع هذه النصوص القصصية في مدونة واحدة أراد أن يتجاوز المألوف ويخرج على السياق برؤية فنية وأسلوبية جديدة فوضع هذه العنوانات ووزع بينها النصوص (البوحيّة) ليتفرد كل فصل بمنظوره الفني الخاص. وهذا نوع من التجديد يحمد له.
وإذا وصلنا إلى عناوين القصص (البوحيّة) داخل كل فصل لوجدنا الجمال الأسلوبي، والحداثة الإبداعية، والرؤى المتجددة من خلال سك العناوين المثيرة وإخراجها عن مساقها المتعارف عليه كلافتة قبلية، ولكنه جعلها في آخر النّص (البوحيِّ) كخاتمة ولازمة تحيل إلى العنوان المنتظر والمرتقب للقارئ، إذ يتواصل مع النّص مباشرة دون ضغط قبليٍ من العنوان الأس!!
وفي هذا كمال الجمال والحداثة.
ولعلنا في الأيقونة النقدية التالية نتداخل مع جملة من هذه النصوص (البوحيّة) لنرى قدرة القاص مع تجذير مفهوم جديد (للعنونة) لأن تكون (تالية/ آخرية) وليست أولية/ قبلية، وتختبر – نقدياً – جمالياتها الأسلوبية والفكرية.
* * *
(5) في نص باذخ قصير ومختصر من المحور الأول (ص9) نجد فكرة تتحول إلى نص مكتوب لا يبلغ سطراً متصلاً، فيوزعه على ثلاثة أسطر يتيح لك القراءة البصرية للنّص وما حوله تبحث عن (العنوان) فلا تجده في المكان المتعارف عليه كتابياً/ في بداية القصة، فتدخل إلى قراءة النص مباشرة لتجد مفردة (الظن) ومفاهيمها الإيجابية والسلبية بين صديقين أحدهما (يعزف على وتر البسمة) فيظن أن صديقه امرأة، والآخر (تنطق بديهته الحبلى بالبراءة) فيظن أن الصديق (رجلاً)!! ثم نجد العنوان/ اللافتة في آخر النص: (ظن مفخخ).
هنا تتجلى الثنائيات: الظن الحسن والظن السيئ، الصديق والعدو، الرجل والمرأة، البسمة والبراءة لنصل إلى العنوان الثنائي!! وكل هذا يذكرنا بالثنائيات التقابلية التي تشكل مرتكزاً رئيساً في هذه المجموعة.
ومن أوسط فصول ومحاور المدونة نتأمل النص الوارد على الصفحة (30) فلا نجد عنواناً/ مفتاحياً في مدخل القصة وإنما ينتظره القارئ إلى نهاية القراءة. فبطولة النص أنثوية جاءت بضمير الغائبة (روحها – إحساسها – أقدامها)، ومتن النّص وصوفات تصويرية:
* هائمة في صحراء الصمت.
* إحساسها بالصقيع.
* أقدامها الحافية.
وتنتهي القصة بأن تلك الروح الهائمة وصلت إلى (مدفأة البوح) فـ(باحت)!! ثم نجد العنوان في آخر النص (التي باحت).
هنا نتذكر العنوان معارج البوح، ولعل هذا النّص هو الوحيد الذي يتصل بمعنى ودلالات (البوح) في العنوان الرئيس!! وكذلك عنوان (بوح سردي) في المحور الثالث/ واسطة المحاور الذي تجلى تجلياً واضحاً في السياق العنواني ومنها اقتبس وتحول إلى لافتة وعنوان جامع وشامل.
هنا – في هذا النّص – نجد الثنائيات على مستوى المتن وعلى مستوى العنوان/ الأخروي!!
ومن آخر فصول/ محاور المجموعة، تقف القراءة عند نص فيه من الأبوية والإنسانوية ما يجعلك تقترب من واقع أليم يعيشه (اليتيم) في مجتمعنا الكبير!!
يقوم المتن على مواجع لا تحمل عنواناً في أوله كالمعتاد، متن يوحي بالفقد والبؤس والحرمان، لفتىً يحمل سمة اليتم:
فالعمة/ تضربه خوفاً عليه...
والأخ/ يوبخه صباحاً...
والمعلم/ يستهتر به...
ثم تأتي الخاتمة: يشعر هذا (اليتيم) (بالفقد للحنان)، (واليتم ينمو على راحتيه وحشاً يأكل معنى الفرح، وبقايا الذكريات).
ثم يجيء العنوان/ اللافتة في آخر النص المكتوب: (ضمير طفلٍ يتيم)!!
أيضاً في هذا النص يلعب المؤلف على الثنائيات التقابلية، واللغة الاختزالية، والأسلوب المتنامي.
وهكذا يخرج بنا المؤلف (إبداعاً وتجديداً وحداثة) من العنوانات القبلية التي توجه القارئ إلى معطيات النص/ المتن إلى العنوانات الختامية التي تكسر أفق التوقع وتدفعك إلى إعادة القراءة الاستيعابية والرابطة بين المتن والعنوان.
ولعل هذا يدفعنا للقول إنها تجربة تجديدية جديرة بالتبني والمقبولية، لأنها تخرج القارئ المعتاد على قراءة العناوين، والتوقف عندها لأنها تعطيه كامل المفهوم عن النص، روح النّص والمتن ويتعالق مع معطياته دون رقيب أو موجه أو دال، وهو ما يجده في نهاية القصة فيعود إليها قارئاً ومسترجعاً.
وبذلك فإن اختيارنا لهذه التجربة تجعلنا نمنح المؤلف جدارة الإبداع والتجديد جمالياً وأسلوبياً ولغة وديناميّة تفاعلية.
* * *
(6) وهنا تقف القراءة التأويلية والمقاربة النقدية لنترك المساحة الباقية للقارئ الفطن الذي سيجد مجالات جديدة ومحاور متجددة لقراءات متعددة، وحسب هذه المقاربة أن تشير وتلمح ولا تستقصي وتصرح فيكفي من القلادة ما أحاط بالعنق!!
ولكن قبل أن أودع هذه المساحة النقدية لابد من الإشارة إلى أن هذا العمل يدخل ضمن مجالات الـ(ق.ق.ج) بمعطياته المتعارف عليها نقدياً وقصصياً وإن كانت تختلط مع ما يسمى بـ(النص المفتوح) وهو عالم يتشاكل مع الخاطرة، والقصة، والمقالة القصيرة.
وكل هذا من جنس الإبداع الأدبي الذي يتجول فيه الأديب والقاص بكل تلقائية واحترافية دون فواصل أو حدود وإنما قواسم مشتركة من اللغة والإبداع والتجسير الثقافي!!
** **
- د. يوسف حسن العارف