تحدثت في موضوعين سابقين عن كتابي طقوس الكتابة عند الروائيين، وكيف بدأ من فكرة، ليتحول إلى كتاب جاذب نال إعجاب مكتبة الكونجرس الأمريكية كي تقتنيه ليكون من بين كتبها، ثم شرعت أكتب عن معاناتي في جمع طقوس ستين روائيا في ظرف ثلاث سنوات، وما صادفني من بعض المواقف الجميلة والصعبة، وذكرت أن كل اتصال مع روائي لم يكن سعيدا في الغالب، ولم يكن يخرج بطقوس، علاوة على أنه قد يحمل ما هو أسوأ كما حدث لي مع هذا الروائي.
قرأت ذات يوم في إحدى الصحف مقالاً عن الروائي المصري نجيب محفوظ، وأنه لم يعد يستطيع الكتابة بعد إصابته في ظهره بطعنة من فتى مصري بسبب روايته « أولاد حارتنا»، وأن ذلك أصابه بنوع من الحزن والضيق؛ لفقدانه القدرة على الكتابة والاستمتاع بتلك اللحظات التي يعيشها مع الكتابة.
حملت هذا الشعور عندما اتصلت بروائي عربي يفوق عمره الثمانين عاماً، كنت أدرك مدى صعوبة أن يجلس رجل في هذا العمر كي يكتب لي طقوسه، ولهذا حرصت أن أقتبس منه نقاطاً وكلمات شفوية يقولها في اتصال هاتفي.
عرفته بنفسي ومكاني، رحب بالسعودية وأهلها، وعدد أصحابه في الرياض، أخبرته عن الكتاب والأسئلة، فطلب أن أرسلها إلى فاكس، عدتُ أطلب منه أن يجيب عنها شفوياً، فتغير صوته قائلا: إن هذه المعلومات ليس من الجيد الحديث عنها شفويا، بل الكتابة هي الحل.
دونت رقم الفاكس خاصته، وأنا غير راض، ولكن لا حول لي مادام قد أصر على الفاكس والكتابة، وأسرعت أرسل الفاكس قبل أن يجف عرق الاتصال، وينسى الموضوع، وبعد أسبوع اتصلت به، فذكر أن الفاكس عند صديق يسكن في مكان بعيد، ولم يزره بعد، ويحتاج إلى أيام كي يرى أوصل أم لا!
بعد عشرة أيام اتصلت وكلي أمل أن يكون الفاكس قد وصل، وأن الأجوبة حاضرة، ففي طريق عودتي ظهرا من عملي، كنت في سيارتي عندما ضغطت بأصابعي على اسمه ورقمه فتعالت الرنات، وعندما بلغت خمساً توقفت، وعلا صوته المبحوح الذي أرهقته السنون والصعاب وطول الحياة، فقال: مين؟ أخبرته باسمي وذكرته بالكتاب والأسئلة والفاكس، ثم سألته: هل وصل الفاكس يا أستاذ؟
لكني تفاجأت بصوته المرتفع يصرخ بي: أيوه وصل، ما هذه الأسئلة يا .....، سبعة أسئلة وفي داخل كل سؤال عشرة أسئلة، ماذا تظنني؟
ساد بيننا صمت ثقيل، فعدت أقول بصوت منخفض: ما رأيك يا أستاذي أن أحصل عليها شفويا؟ ولكنه عاد يصرخ: ولا شفوي، مع السلامة.
ثم أغلق الخط، وذهب بعد أن تركني في حالة من الجمود والتساؤل: هل لم أحسن التصرف معه؟ هل أخطأت عندما عاملته في الأسئلة كغيره؟ كنت قد توقعت رفضه، لكني لم أتوقع صراخه وشتيمته، وعلى كلٍ فقد بلعت غصتي، وواصلت سيري وتواصلي مع روائيين آخرين.
** **
- عبدالله ناصر الداود