عبدالوهاب الفايز
ثمة حالة إجماع وترحيب عربي جديدة صاحبت انعقاد القمة العربية في جدة الأسبوع الماضي. فالقمة العربية وصفت هذه المرة بأنها (قمة مصالح الشعوب العربية)، وقمة التوافق العربي الذي استهدف العمل على القضايا الحيوية الوجودية التي تواجه الشعوب العربية. كانت قمة مهيئة لولادة: شرق أوسط جديد، يخرج من حروب الثلاثين عاماً الماضية الخاسرة، وربحها أعداء المنطقة المتربصون باستقرارها وأمنها، والطامعون بثرواتها.
ولماذا لا تكون قمة الشعوب.. وهناك من دعا لها وترأسها ووضع العوامل الضرورية لنجاحها، وقدم التضحيات والتنازلات، حتى يكون الحضور نوعياً وكبيراً، ولا يستثنى أحد.. حتى سوريا التي غابت عن القمة لسنوات، عادت لتكون في حضن العروبة. وهناك من أدرك واستوعب أن الحقبة الزمنية التي نعيشها هي حقبة تاريخية جديدة، حيث مكنت تطورات التواصل الرقمي قدرة الشعوب على الحراك السياسي والاقتصادي والاجتماعي. وهذا يتطلب أن تكون الحكومات وشعوبها على وفاق تام لاستيعاب التحولات التاريخية، وتدرك حجم المخاطر التي تحيط بالمنطقة وشعوبها.
للقمة ثلاثة مخرجات: الأول أكد أهمية إبعاد المنطقة عن صراع القوى العظمى. الثاني ما يتعلق بأهمية وجود رؤية واضحة للتحديات المعاصرة التي تواجه الدول والشعوب في القضايا الاقتصادية والسياسية التقنية. الثالث ما يتعلق بأهمية وجود روح دافعة جامعة للعمل العربي المشترك.. وهذا ما عملت عليه المملكة عندما رأت أهمية إبعاد المنطقة عن الصراعات الدولية حتى تواجه هذا الواقع. والأمير محمد بن سلمان - حفظه الله- أكد في كلمته على (أن السعودية لن تسمح بأن تتحول المنطقة العربية ميداناً للصراعات).
وهذا ما تتطلع إليه الشعوب حتى تتفرَّغ للقضايا الحيوية المصيرية التي تواجهها وأهمها فتنة طمس الهوية الوطنية والثقافية العربية.
وكمواطن سعودي أفتخر بانعقاد القمة بهذه الروح الجديدة، وأن تكون اللغة العربية حاضرة بقوة في هذه القمة. فالسعودية هي التي تبنت مبادرة اللغة العربية وأوردتها ضمن البنود الأساسية لـ(إعلان جدة)، وكما نعرف وثيقة الإعلان في المؤتمرات والقمم الدولية تتولى صياغتها وإعدادها دولة الرئاسة وفيها تضع رؤيتها وأفكارها والمبادرات والمشاريع التي تتطلع إليها، ولها الحق أن تشرك بقية الأعضاء في إعدادها وصياغتها.
وفي مقال الأسبوع الماضي في هذه الجريدة ذكرنا أن اهتمام قيادة بلادنا بموضوع الهوية واللغة واضح وجلي في الأنظمة السيادية للدولة، وفي المشاريع التي تبنتها لخدمة العربية مثل مجمع الملك سلمان العالمي للغة العربية، وعالمياً أسست العديد من البرامج والكراسي العلمية لخدمة العربية وآدابها.
وكذلك يتضح في المبادرات المخصصة للحفاظ على الهوية الوطنية في برامج وزارة الثقافة. والقطاع الأهلي أيضاً يتسابق لإطلاق المبادرات النوعية لخدمة العربية والهوية الوطنية مثل المبادرة الشبابية (تحدث بالعربية)، ولعل وزارة الثقافة تحتضنها وتشجع الشباب للتطوع في تنفيذها استجابة لدعوة القمة العربية، ولعلها تكون مبادرة عربية تتبناها المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، فالشباب العربي يواجه نفس المخاطر، ولديه الحماس والرغبة لحماية هويته ولغته.
لقد تضمن (إعلان جدة) الإجماع العربي على أهمية السعي (لتعزيز المحافظة على ثقافتنا وهويتنا العربية الأصيلة لدى أبنائنا وبناتنا، وتكريس اعتزازهم بقيمنا وعاداتنا وتقاليدنا، الراسخة، وبذل كل جهد ممكن في سبيل إبراز موروثنا الحضاري والفكري ونشر ثقافتنا العريقة؛ لتكون جسراً للتواصل مع الثقافات الأخرى).
أيضاً تضمن الإعلان تثمين القمة لـ(حرص واهتمام المملكة العربية السعودية بكل ما من شأنه توفير الظروف الملائمة لتحقيق الاستقرار والنمو الاقتصادي في المنطقة، وخصوصاً فيما يتعلَّق بالتنمية المستدامة بأبعادها الثقافية والبيئية والاجتماعية والاقتصادية، وعملها خلال سنة رئاسة المملكة للقمة العربية (32) على عدد من المبادرات التي من شأنها أن تسهم بدفع العمل العربي المشترك في المجالات الثقافية الاقتصادية والاجتماعية والبيئية، ومن ذلك: مبادرة تعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها، والتي تستهدف أبناء الجيل الثاني والثالث من المهاجرين العرب، بما يسهم في تعزيز التواصل الحضاري بين الدول العربية والعالم، ويبرز الحضارة والثقافة العربية العريقة والمحافظة عليها).
والإقرار بأهمية اللغة العربية للأمن الثقافي العربي ولهوية الأجيال القادمة مؤشر على تجدد الحيوية السياسية للدول العربية وإدراكها أن اللغة العربية جزء أصيل في العمل العربي المشترك. فهذا يحقق للمنطقة ولشعوبها ما تتطلع إليه ويعيد المنطقة إلى مركز التحكم في جميع مصالحها الإستراتيجية، ويضعها أمام مسؤولياتها التاريخية تجاه شعوبها وتجاه العالم وتجاه تحقيق الاستقرار والسلام والأمن في منطقة حيوية للاستقرار العالمي، حيث إنه يرسخ هويتها.
الذي يتطلع إليه جميع المهتمين في الشأن الثقافي والفكري في العالم العربي وتراه حاضراً في أبحاثهم ومقالاتهم ومنتدياتهم الفكرية ضرورة اهتمام الحكومات العربية، وجامعة الدول العربية والمؤسسات التعليمية والثقافية التابعة لها بالأمور الأساسية التي تحفظ اللغة العربية وتعزز مكانتها وتحميها.
وانطلاقًا من اهتمام القمة، المطلوب هو تأسيس آلية داخل الجامعة تتولى متابعة تنفيذ قرارات القمة ومبادراتها. وربما ندعو حكومة بلادنا - بحكم أنها تترأس الدورة الحالية للقمة - أن تتولى إنشاء هذه الآليات ودعمها وتمويلها.
من الأمور الحيوية أهمية وضع سياسات لاستخدام العربية في جميع المؤسسات العربية، والعمل على تعميق الوعي بالهوية العربية الإسلامية، ومقاومة التوجهات لإقصاء العروبة واللغة العربية وكل ظواهر التغريب.
ومن الأوليات للحفاظ على العربية مقاومة التوجهات داخل المنظومة الإعلامية العربية للابتعاد عن استخدام العاميات وتجاهل الفصحى، ووضع استخدام الفصحى في صلب السياسة التحريرية التي تُوجه العمل الإعلامي لأجل فرض الاستخدام السليم للغة العربية.
الوسائل الإعلامية هي وسيلة الاتصال بالوجدان العربي، وعبرها تقدم أشكال المعرفة والثقافة. ويشمل هذا أهمية وضع ضوابط للإعلان التجاري. وهناك توصيات عديدة يصدرها مجمع اللغة العربية في القاهرة، ففي دورته الستين، على سبيل المثال، أوصى باستخدام الفصحى في جميع وسائل الإعلام وفي المسارح - خاصة مسارح الدولة - وفي الإذاعتين المسموعة والمرئية، وبخاصة المسلسلات التلفازية.
أيضاً أوصى بحظر (كتابة الأسماء الأجنبية بحروف عربية، ودعا جميع الدول العربية وحكوماتها إلى إصدار أنظمة تحظر استخدام هذا الأسلوب وتجرِّم من يستخدمه.
أيضاً دعا (جميع القادة والمسؤولين في الوطن العربي إلى أن تكون خطبهم وبياناتهم الموجهة إلى الجماهير بلغة عربية سهلة سليمة؛ لما لذلك من أثر في انتشار العربية والشغف ببيانها السليم).
هذا الاهتمام العربي باللغة العربية جددته قمة جدة، وتفعيل هذا الاهتمام في الحقبة الحالية والمستقبلية أصبح أمراً جوهرياً، فالهويات الثقافية مهددة بالانسلاخ الحضاري، فالمبادرة لحماية الهويات والخصوصيات لشعوب المنطقة ضروري أن يكون في أولويات الأمن القومي العربي.
أخيراً نقول: يحق لنا أن نقول شكراً للقادة العرب، ففي جدة (زها الزمان بقمة الإنسان وعروبة المكان).