فضل بن سعد البوعينين
أعادت المملكة القمم العربية إلى واجهتها المستحقة من جديد، وفرضت أهميتها في مواجهة التحديات السياسية، الأمنية، التنموية، والحضارية، ومعالجة المشكلات العربية بعيداً عن التدخلات الخارجية التي تسببت في ترسيخ المشكلات، وتعميق الخلافات لا حلها.
وتمكن سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان بدبلوماسيته من جمع الأشقاء العرب في المملكة، وتوحيد كلمتهم، وتكريس دورهم لبناء علاقات صحية مع دول المنطقة والعالم. رسمت كلمة سمو ولي العهد خارطة طريق العلاقات العربية العربية، والعربية الدولية، تعتمد في أساسياتها على المصالحة الشاملة، ومعالجة الملفات العالقة، والتحول المباشر نحو التنمية واستثمار المقومات المتاحة لمواجهة التحديات العالمية، وتحقيق مكانة متقدمة وقيادية، ونهضة شاملة لشعوب ودول المنطقة، والمضي نحو «السلام والخير والتعاون»، وطي صفحة الماضي وعدم السماح بالتدخلات الأجنبية، وتحويل المنطقة إلى ميادين للصراعات.
بعيداً عن البيان الختامي، ونمطيته الدبلوماسية المعتادة، يمكن اعتبار كلمة سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان وثيقة عمل للدول العربية الراغبة في اللحاق بقطار التنمية، والالتزام بتحقيق الأمن والسلام ونبذ الخلافات وتحقيق التكامل الاقتصادي الأمثل والتنسيق السياسي لمواجهة التحديات التي تواجهها المنطقة. ورسالة واضحة للغرب بتوجهات المملكة نحو التنمية الشاملة في المنطقة العربية، وإصرار قيادتها على دعم السلام العالمي، وربط الدول العربية بمشروع تنموي نهضوي يسهم في تنمية الشعوب العربية، واستثمار مقوماتها الاقتصادية، بعيداً عن الصراعات المدمرة.
نجحت المملكة بخطوات استباقية، في معالجة ملفات خلافية مهمة قبل دعوة خادم الحرمين الشريفين لقمة جدة، وفي مقدمها الملفات الخليجية، والملف الإيراني، الذي أسهم بمعالجة كثير من ملفات المنطقة الأمنية والسياسية، المرتبطة به، وفي مقدمتها الملف اليمني، وتمكنت من إعادة سوريا إلى حضن الجامعة العربية، والمساهمة الفاعلة في وقف إطلاق النار في السودان. أسهمت دبلوماسية سمو ولي العهد؛ وإصراره على تحقيق مشروعه النهضوي في المنطقة العربية، ليكون امتداداً لرؤية 2030؛ في الحد من الخلافات العربية، والسعي لتصفيرها ومن ثم الانطلاق نحو التنمية الشاملة والتكامل الاقتصادي والتنسيق السياسي. نزع فتيل التوتر في المنطقة، ووقف العداوات المدمرة، والتدخلات الخارجية هو بداية تنفيذ المشروع النهضوي الشامل الذي تحتاجه المنطقة، وتستحقه الشعوب العربية.
نجحت المملكة في شق طريقها نحو الاستقلالية وتكوين الشراكات الدولية، وخلق علاقات إستراتيجية مع الدول الكبرى بتوازن محمود محقق للمصالح الوطنية، استثمرتها في تحقيق مصالح الدول العربية، والمنطقة عموماً. مد الجسور مع أميركا، بكين، وروسيا أعطاها قدرة أكبر على إعادة ترتيب ملفات المنطقة، وتهيئة الظروف لإحداث نقلة تنموية كبرى تعيد الدول العربية إلى الواجهة وتمكنها من تبوء موقعها المتقدم بين الأمم. سياسة بناء العلاقات الدولية التي انتهجها سمو ولي العهد سهلت دعوة الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي إلى القمة، وتلقيها في الوقت عينه رسالة من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وبما يؤكد نهج المملكة والدول العربية الداعم للحل السلمي في النزاع بين روسيا وأوكرانيا، ما يعكس اهتمام قمة جدة بتحقيق السلم الدولي بعيداً عن التحيز لأي من طرفي النزاع.
تمكنت المملكة من إنجاح القمة، ولم شمل جميع الدول العربية فيها، ونجح سمو ولي العهد في رسم خارطة طريق التنمية والسلام، والتعاون واستثمار المقومات المتاحة، وتحفيز الأشقاء العرب على تبنيها، ونبذ الفرقة والنزاعات البينية والداخلية، واستبدالها بمشروع نهضوي شامل يمكنها من تبوء مكانة متقدمة وقيادية وتحقيق نهضة شاملة في جميع المجالات. باتت لغة السلام والتنمية مقدمة على النزاعات والخلافات البينية، فمن خلالها تتحقق مصالح الشعوب العربية وأمن واستقرار دولها، وازدهار اقتصاداتها، وهي اللغة التي خاطب بها سمو ولي العهد الزعماء العرب، والعالم، انطلاقاً من إيمانه التام بأهمية التنمية والتعاون في بناء الدول ورفاهية الشعوب. ويبقى السؤال الأهم: ماذا بعد قمة جدة؟ وجوابه لدى زعماء الدول العربية، الذين حَمَّلَهم الله مسؤولية شعوبهم، وأمن واستقرار دولهم والمنطقة. فإما اللحاق بقطار التنمية ومشروع النهضة الشامل الذي تبنته المملكة، وإما التخلف عنه والبقاء في ساحة الصراعات المدمرة للشعوب ومقدراتها الاقتصادية.