عبده الأسمري
ما بين «التاريخ» الزاخر بالتوثيق و»الترسيخ» الفاخر بالتوفيق ملأ مكانه بالمكانة المعرفية وأضاء زمانه بالأمانة المهنية ومن «أصول» الفقه و»فصول» الأدب رسخ «العلم» وسخر «العمل» فجادت «غيوم» مسيرته بصيب «نافع» من الأثر ونصيب «شافع» من التأثير و»نصاب» ماتع من المآثر.
تتبارى «الذاكرة» أمام سيرته «العريضة» في تعدد المهام وتمدد المهمات ويتنافس «الاعتبار» مع «الاقتدار» لتبقى «الدلائل» شاهدة و»الوسائل» صامدة في وصفه مهنياً وتوصيفه معرفياً.
إنه عضو هيئة كبار العلماء السابق المؤرخ والأديب والفقيه الدكتور عبد الوهاب أبو سليمان رحمه الله أحد أبرز العلماء والفقهاء والمؤرخين في الوطن والعالم الإسلامي.
بوجه دائري تتواءم فيه الملامح والمطامح وسحنة حنطية وتقاسيم مألوفة تشبه والده وتتشابه مع أخواله وعينين تنبعان بنظرات «الذكاء» ولمحات «العطاء» وشخصية ودودة لينة الجانب لطيفة المعشر جميلة التعامل أصيلة الطبع نبيلة التطبع قوامها الانتفاع بالعلم ومقامها النفع بالعمل وكاريزما مسجوعة بالتهذيب ومشفوعة بالرقي وصوت جهوري خليط بين اللهجة الحجازية في مجالس قومه واللغة المجازية في مرابع عشيرته والانفرادات اللغوية والسياقات اللفظية ذات المحسنات الإبداعية والمحاسن القولية المنبثقة من «فصل الخطاب» و»أصل الجواب» قضى أبو سليمان من عمره عقوداً وهو يملأ قاعات الجامعات بعبير التدريس ويفصل في وقائع الاختلاف بأثير الفتوى ويبهج إنتاج المكتبات بغنائم التأليف ويرصد تعاقب الأزمنة بمغانم الوثائق أكاديمياً وفقيهاً وأديباً وعالماً ومؤرخاً ابهر «متون» المعارف بواقع «السداد « وأشهر «شؤون» المشارف بوقع «الانفراد».
في شعب عامر الشهير بمكة المكرمة ولد أبو سليمان عام 1356 وتجرع اليتم باكراً بعد وفاة والده وهو في سن الخامسة من العمر وانتظم في دروس الشيخ حسن مشاط بالمسجد الحرام الذي رافقه تلميذاً باراً وطالباً ساراً كان يحمل كتبه عند انتهاء حلقات الدرس من المسجد الحرام حتى منزله في أم الدرج.
خضع أبو سليمان لمناهج حنان من والدته صغيراً حولها إلى مباهج امتنان لها أمام عائلته كبيراً حيث أتقنت تلك السيدة الكريمة «سد ثغرات» الاحتياج العاطفي برصيد من النتاج الوجداني الذي غمرت به قلبه..
ركض أبو سليمان مع أقرانه طفلاً نابهاً نابغاً بين أحياء القشاشية وحارة الفلق وجبل الكعبة مسكوناً بالطاعات ومقروناً بالصالحات متربياً في أحضان «الحسنى» حيث تعتقت روحه بروحانية الحطيم وطمأنينة المقام وامتلأ داخله بطهر زمزم وقرت عينه بصفاء الحرم المكي وظل ثاوياً في أهل «التدين» ساكباً عبراته الأولى أمام الحجر الأسود كاسباً دعواته المثلى حول الركن اليماني واضعاً سر «الهجوع» أمام الصفا والمروة وخفاء «الخشوع في صحن الطواف».
اقتبس أبو سليمان من «وجوه» البسطاء في صباحات مكة «قيمة» العفوية ومن وجاهة «الأدباء» في مساءات الحجاز همة «الهوية» فانخطف إلى أمنيات باكرة كتبها بقلم أخضر في كشكوله الدراسي المرصع بعلامات «النبوغ» «فظل يشبع «غروراً» معرفياً استعمر وجدانه ليجد نفسه واقفاً على «عتبات» البحث عابراً «عقبات «التساؤل مسخراً»وثبات «التفاؤل حاصداً «مثابة» اليقين و»مثوبة»التمكين».
درس أبو سليمان بدار الأيتام بمكة المكرمة وتخرج منها عام 1369هـ ثم التحق بالمعهد العلمي لمدة خمس سنوات وتخرج منه عام 1374هـ وأكمل دراسته في كلية الشريعة، وبدأ حياته العملية في صفر عام 1378هـ مدرساً لمادتي الفقه والتفسير بمدرسة الزاهر المتوسطة، وقد أعد في هذه الفترة تفسيراً للأجزاء المقررة من تفسير القرآن الكريم. وانتدب لتدريس اللغة العربية وطرق تدريس العلوم الشرعية بالدورة الصيفية للمعلمين التي كانت تنظمها وزارة المعارف بالطائف. وحصل على دبلوم التربية للمعلمين من الجامعة الأمريكية ببيروت في صيف عام 1382هـ.
عمل معلماً بالمدرسة العزيزية الثانوية بمكة، فدرس فيها العلوم العربية والدينية، وأخرج مؤلفاً مدرسياً لكتاب عبقرية الصديق لعباس محمود العقاد ثم تعين معيداً بكلية الشريعة لمادتي: أصول الفقه والفقه المقارن في عام 1384هـ.
وفي عام 1385 ابتعث إلى جامعة لندن للدراسات العليا بقسم القانون المقارن وحصل على درجة الدكتوراه مع توصية بطبع الرسالة في شوال من عام 1390هـ ونال أيضاً دبلوم في القانون الإنجليزي والدراسات الحقوقية أثناء تحضيره للدكتوراه.
عين عميداً لكلية الشريعة والدراسات الإسلامية بجامعة الملك عبد العزيز من1391 هـ. حتى 1393هـ. ومنح الميدالية التقديرية للجامعة من الدرجة الأولى تقديراً لأعماله وهو عضو لجنة الترقيات العلمية منذ تشكيلها بجامعة أم القرى حتى عام 1414هـ.
وعضو لجنة معادلة الشهادات الجامعية بوزارة التعليم العالي من 1397هـ حتى عام 1404هـ،
اختير من قبل وزارة المالية والاقتصاد الوطني لرئاسة لجنة الاستئناف الجمركية للمنطقة للفترة من عام 1391هـ حتى عام 1396هـ. وهو عضو المجلس العلمي بجامعة أم القرى منذ عام 1405هـ حتى عام 1414هـ.وعضو مركز التراث الإسلامي بجامعة أم القرى سابقًا. وعضو مجلس عمادة شؤون المكتبات بجامعة أم القرى عام 1409هـ. وعضو لجنة خبراء الموسوعة الفقهية بمجمع الفقه الإسلامي وعضو اللجنة العلمية بالبنك الإسلامي للتنمية بجدة واختير عضواً بالهيئة الشرعية العالمية للزكاة بدولة الكويت.
التحق بكلية الحقوق بجامعة هارفارد بأمريكا عامي 96/1397هـ كأستاذ باحث، وألقى بها محاضرات في الفقه الإسلامي، كما ألقى محاضرات عن القانون الإسلامي وتطبيقه في السعودية في جامعة «بوستن» ومركز الأديان بجامعة (هارفارد).
انتدب كأستاذ زائر في كل من جامعة (ديوك) الأمريكية والجامعة الإسلامية العالمية بماليزيا وكلية الحقوق بجامعة هارفارد وعمل كأستاذ زائر بالإمارات في كلية الدراسات العربية الإسلامية بدبي، وجامعة الشيخ زايد بأبو ظبي، وجامعة الإمارات بالعين، ومركز جمعة الماجد للبحوث والدراسات الإسلامية،
وفي عام 1413 صدر الأمر الملكي بتعيينه عضو هيئة كبار العلماء.
وشغل أبو سليمان عضوية جائزة الملك فيصل العالمية للدراسات الإسلامية حتى عام 1420هـ. وجائزة الأمير نايف العالمية للسنة النبوية والدراسات الإسلامية عام 1422هـ والمجلس الاستشاري لمشروع الفقه المالكي بالدليل بدار البحوث للدراسات الإسلامية وإحياء التراث بدبي عام 1423هـ.
وله أكثر من 9 كتب مطبوعة في الفقه الإسلامي وأكثر من 14 كتاباً في كتابة البحث العلمي ومناهجه وحوالي تسعة بحوث متنوعة منشورة في عدة تخصصات وسبعة بحوث متخصصة في قضايا الزكاة المعاصرة ودراسات في مناسك الحج مجموعة في كتاب بعنوان (الحج المشعر والشعيرة - دراسة فقهية جغرافية حضارية) ومثّل المملكة في عدة مناسبات خارجية وشارك في عشرات الندوات والمؤتمرات داخلياً وخارجياً وتم تكريمه في عدة محافل وتم اختياره الشخصية الثقافية للمهرجان الوطني للتراث والثقافة «الجنادرية» وحصل على جائزة الملك فيصل العالمية في الدراسات الإسلامية عام 1435هـ. وحصل كتابه (باب السلام في المسجد الحرام ودور مكتباته في النهضة العلمية والأدبية الحديثة) على جائزة (كتاب العام) عام 1429هـ.
انتقل أبو سليمان إلى رحمة الله يوم الاثنين 26 رمضان من هذا العام وَوُوري جثمانه ثرى مكة الطاهر وشيعه المئات من تلامذته وأحبابه ونعاه «الوطن» باتجاهاته الأربعة وعزى فيه المسؤولون والقياديون ورفقاء دربه وزملاء حرفته وأصدقاء مرحلته..
عبد الوهاب أبو سليمان.. العالم المكي والفقيه الوجيه الذي استلهم من «اليقين» معاني البحث وانتهل من «التمكين» معالم التأليف فعاش ممهوراً بقيمته وارتحل مشهوراً بقامته واضعاً اسمه على «منصات» الذكر وتاركاً صيته أمام «إضاءات» التذكير..