د.علي آل مداوي
اتجهت أنظار كل وسائل الإعلام الإقليمية والدولية إلى القمة التي عقدت في مدينة جدة، بحضور قادة وزعماء ورؤساء الوفود العربية، التي تأتي في ظروف استثنائية تمر بها المنطقة العربية والعالم من أزمات وصراعات إقليمية ودولية.
وقد سبقت قبل انعقاد القمة عدة اجتماعات تحضيرية بهذا الشأن على مستوى كبار المسؤولين والوزراء على مدار بضعة أيام، وذلك في إطار حسم جدول الأعمال التي قد تم رفعها إلى الزعماء العرب.
ولا شك أن كلمة صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز ولي العهد رئيس مجلس الوزراء - حفظه الله- في الكلمة الافتتاحية للقمة كان له الأثر العميق، حيث وضع النقاط على الحروف، وبذلك رسم خارطة طريق عربية للحاضر والمستقبل: حيث ذكر سموه «نؤكد لدول الجوار، وللأصدقاء في الغرب والشرق، أننا ماضون للسلام والخير والتعاون والبناء، بما يحقق مصالح شعوبنا، ويصون حقوق أمتنا، وأننا لن نسمح بأن تتحول منطقتنا إلى ميادين للصراعات، ويكفينا مع طيّ صفحة الماضي تذكر سنوات مؤلمة من الصراعات عاشتها المنطقة، وعانت منها شعوبها وتعثرت بسببها مسيرة التنمية»، فالثقة الكبيرة، التي يتمتع بها سموه لدى قادة وشعوب الدول العربية ونجاح سموه في بناء علاقات متوازنة على الصعيدين الإقليمي والدولي، كما يظل لسموه دور كبير في توحيد مواقف جميع الدول العربية وشهدنا ذلك خلال الكلمة التي ألقاها سموه وكان لها الأثر المباشر في هذا الصدد.
استطاعت القمة أن تثبت أن المملكة العربية السعودية تمثّل قوة إقليمية ودولية مؤثّرة، وتتمتع بمكانة وثقل إستراتيجي وجيوسياسي رفيع، وقوة اقتصادية كبيرة وملهمة، ودبلوماسية حكيمة، ولها ثقل على الصعيدين الإقليمي والدولي، ومحركاً مهماً وفاعلاً في الأحداث، وتعد المملكة بيت العرب الكبير، والسعي إلى حفظ وحدة الأمة، وتماسكها، وتنمية الاقتصاد والدعوة لتعزيز الاستقرار، والسلام العالمي. وسأناقش أبرز ما تطرقت له القمة العربية التي حققت نجاح باهر في هذا الشأن وهي كالتالي..
القضية الفلسطينية
لا شك أن القضية الفلسطينية تعد القضية المركزية للعالم العربي وتزامناً مع التصعيد العسكري في قطاع غزة، وإعلان كذلك الجانب الإسرائيلي بناء مستوطنات جديدة، الذي لا يزال مجلس الأمن والاتحاد الأوروبي وغيرهما من الجهات الدولية يؤكدون على صعوبة لتحقيق السلام في الشرق الأوسط. ووفقاً لما نقلته وكالة أنباء واس جدد القادة العرب التأكيد على مركزية القضية الفلسطينية لدول باعتبارها أحد العوامل الرئيسة للاستقرار في المنطقة، وأدانوا بأشد العبارات الممارسات والانتهاكات التي تستهدف الفلسطينيين في أرواحهم وممتلكاتهم ووجودهم كافة، وأكدوا على أهمية تكثيف الجهود للتوصل إلى تسوية شاملة وعادلة للقضية الفلسطينية، وإيجاد أفق حقيقي لتحقيق السلام على أساس حل الدولتين وفقاً للمرجعيات الدولية وعلى رأسها مبادرة السلام العربية والقرارات الدولية ذات الصلة ومبادئ القانون الدولي بما يضمن استعادة الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني وخاصة في العودة وتقرير المصير وتجسيد استقلال دولة فلسطين ذات السيادة على الأراضي الفلسطينية على حدود عام 1967م وعاصمتها القدس الشرقية، ودعوة المجتمع الدولي إلى الاضطلاع بمسؤولياته لإنهاء الاحتلال، ووقف الاعتداءات والانتهاكات الإسرائيلية المتكررة التي من شأنها عرقلة مسارات الحلول السياسية وتقويض جهود السلام الدولية، والتشديد على ضرورة مواصلة الجهود الرامية لحماية مدينة القدس المحتلة ومقدساتها في وجه المساعي المدانة للاحتلال الإسرائيلي لتغيير ديمغرافيتها وهويتها والوضع التاريخي والقانوني القائم فيها، بما في ذلك عبر دعم الوصاية الهاشمية التاريخية لحماية المقدسات الإسلامية والمسيحية وإدارة أوقاف القدس وشؤون الأقصى المبارك التابعة لوزارة الأوقاف الأردنية بصفتها صاحبة الصلاحية الحصرية، وكذلك دور لجنة القدس ووكالة بيت مال القدس.
الأزمة السودانية
لعبت الدبلوماسية السعودية دوراً كبيراً في احتواء الأزمة السودانية وإنهاء الخلافات الداخلية بين الأطراف الداخلية، واعتبار اجتماعات جدة التي بدأت بتاريخ 16 شوال 1444هـ الموافق 6 مايو/ أيار 2023م بين الفرقاء السودانيين خطوة مهمة يمكن البناء عليها لإنهاء هذه الأزمة وعودة الأمن والاستقرار إلى السودان وحماية مقدرات شعبه.
وأكد القادة العرب على ضرورة التهدئة وتغليب لغة الحوار وتوحيد الصف، ورفع المعاناة عن الشعب السوداني، والمحافظة على مؤسسات الدولة الوطنية، ومنع انهيارها والحيلولة دون أي تدخل خارجي في الشأن السوداني يؤجج الصراع ويهدد السلم والأمن الإقليميين.
عودة سوريا إلى البيت العربي
كان حضور فخامة الرئيس السوري بشار الأسد لافتاً وإيجابياً بالمشاركة في أعمال القمة العربية 32، بعد عزلة دامت 12 عاماً وعودة سوريا إلى الحضن العربي.
ووفقاً لوكالة أنباء واس رحب القادة بالقرار الصادر عن اجتماع مجلس الجامعة على المستوى الوزاري، الذي تضمن استئناف مشاركة وفود الحكومة السورية في اجتماعات مجلس الجامعة والمنظمات والأجهزة التابعة لها، ونأمل في أن يسهم ذلك في دعم استقرار الجمهورية العربية السورية، ويحافظ على وحدة أراضيها، واستئناف دورها الطبيعي في الوطن العربي، وأهمية مواصلة وتكثيف الجهود العربية الرامية إلى مساعدة سوريا على تجاوز أزمتها اتساقاً مع المصلحة العربية المشتركة والعلاقات الأخوية التي تجمع الشعوب العربية كافة.
الأزمة اليمنية
جدَّد القادة العرب وفق البيان النهائي للقمة العربية التأكيد على دعم كل ما يضمن أمن واستقرار الجمهورية اليمنية ويحقق تطلعات الشعب اليمني الشقيق، ودعم الجهود الأممية والإقليمية الرامية إلى التوصل إلى حل سياسي شامل للأزمة اليمنية استناداً إلى المرجعيات الثلاث المتمثلة في المبادرة الخليجية وآلياتها التنفيذية ومخرجات الحوار الوطني اليمني وقرار مجلس الأمن رقم 2216، كما نجدد الدعم لمجلس القيادة الرئاسي في اليمن، لإحلال الأمن والاستقرار والسلام في اليمن بما يكفل إنهاء الأزمة اليمنية.
الملف الليبي
كما أكد البيان الختامي للقمة العربية في جدة، ضرورة حل الأزمة الليبية في الإطار الليبي، ودعم كافة إجراء انتخابات برلمانية ورئاسية كحل للخروج منها، ودعم كافة جهود البعثة الأممية في ليبيا، والتأكيد على ضرورة التوصل إلى تسوية سياسية شاملة، ودعم جهود توحيد القوات المسلحة الليبية، وتثبيت قرار وقف إطلاق النار.
الملف اللبناني
وتطرق البيان الختامي للقمة العربية عن التضامن مع لبنان وحث كافة الأطراف اللبنانية للتحاور لانتخاب رئيس للجمهورية يرضي طموحات اللبنانيين وانتظام عمل المؤسسات الدستورية وإقرار الإصلاحات المطلوبة لإخراج لبنان من أزمته.
البيان الختامي للقمة العربية في جدة
وفقاً لوكالة أنباء واس شدد البيان على وقف التدخلات الخارجية في الشؤون الداخلية للدول العربية والرفض التام لدعم تشكيل الجماعات والميليشيات المسلحة الخارجة عن نطاق مؤسسات الدولة، ونؤكد على أن الصراعات العسكرية الداخلية لن تؤدي إلى انتصار طرف على آخر، وإنما تفاقم معاناة الشعوب وتثخن في تدمير منجزاتها وتحول دون تحقيق تطلعات مواطني دولنا.
الدعوة إلى التنمية والأمن
وأكد البيان على أن التنمية المستدامة والأمن والاستقرار والعيش بسلام، حقوق أصيلة للمواطن العربي، ولن يتحقق ذلك إلا بتكاتف الجهود وتكاملها، ومكافحة الجريمة والفساد بحزم وعلى المستويات كافة، وحشد الطاقات والقدرات لصناعة مستقبل قائم على الإبداع والابتكار ومواكبة التطورات المختلفة، بما يخدم ويعزز الأمن والاستقرار والرفاه لمواطني دولنا.
وأوضح البيان بأن الرؤى والخطط القائمة على استثمار الموارد والفرص، ومعالجة التحديات، قادرة على توطين التنمية وتفعيل الإمكانات المتوفرة، واستثمار التقنية من أجل تحقيق نهضة عربية صناعية وزراعية شاملة تتكامل في تشييدها قدرات دولنا، مما يتطلب منا ترسيخ تضامننا وتعزيز ترابطنا ووحدتنا لتحقيق طموحات وتطلعات شعوبنا العربية.
الاعتزاز بالهوية العربية
وأكد البيان الختامي عن التزام والاعتزاز بالقيم وثقافة القائمة على الحوار والتسامح والانفتاح، وعدم التدخل في شؤون الآخرين تحت أي ذريعة مع التأكيد على احترامنا لقيم وثقافات الآخرين، واحترام سيادة واستقلال الدول وسلامة أراضيها واعتبار التنوع الثقافي إثراء لقيم التفاهم والعيش المشترك ونرفض رفضا قاطعا هيمنة ثقافات دون سواها، واستخدامها ذرائع للتدخل في الشؤون الداخلية لدولنا العربية.
نسعى لتعزيز المحافظة على ثقافتنا وهويتنا العربية الأصيلة لدى أبنائنا وبناتنا، وتكريس اعتزازهم بقيمنا وعاداتنا وتقاليدنا الراسخة وبذل كل جهد ممكن في سبيل إبراز موروثنا الحضاري والفكري ونشر ثقافتنا العريقة؛ لتكون جسراً للتواصل مع الثقافات الأخرى.
دعم مبادرة تعليم ونشر اللغة العربية
حرصت المملكة على مبادرة تعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها والتي تستهدف أبناء الجيل الثاني والثالث من المهاجرين العرب بما يسهم في تعزيز التواصل الحضاري بين الدول العربية والعالم، ويبرز الحضارة والثقافة العربية العريقة والمحافظة عليها.
دعم مبادرة المحافظة على البيئة
مبادرة الثقافة والمستقبل الأخضر والتي تهدف إلى رفع مستوى التزام القطاع الثقافي في الدول العربية تجاه أهداف التنمية المستدامة، وتطوير السياسات الثقافية المرتبطة بالاستدامة، بالإضافة إلى المساهمة في دعم الممارسات الثقافية الصديقة للبيئة وتوظيفها في دعم الاقتصاد الإبداعي في الدول العربية.
دعم الأمن الغذائي العربي وأزمة المياه
مبادرة استدامة سلاسل إمداد السلع الغذائية الأساسية للدول العربية، والتي تعتمد بشكل أساسي على مجموعة من الأنشطة وتوفير فرص استثمارية ذات جدوى اقتصادية ومالية تساهم في تحقيق الأمن الغذائي لدول الوطن العربي، والمساهمة الفاعلة في تلبية احتياجات الدول العربية من السلع الغذائية.
ومبادرة البحث والتميز في صناعة تحلية المياه وحلولها بغرض تحفيز البحث العلمي والتطبيقي والابتكار في صناعة إنتاج المياه المحلاة وحلول المياه للدول المهتمة والمحتاجة، والتركيز على نشر ومشاركة المعرفة والتجارب والمساهمة في تحسين اقتصاديات هذه الصناعة لخفض التكلفة ورفع كفاءة العمليات واستدامتها بيئياً، والمساهمة في إصدار المواصفات والمقاييس المعيارية والهيكلة المؤسسية لقطاعات المياه لتكون صناعة إستراتيجية للدول العربية.
دعم البحث العلمي
مبادرة إنشاء حاوية فكرية للبحوث والدراسات في الاستدامة والتنمية الاقتصادية والتي من شأنها احتضان التوجهات والأفكار الجديدة في مجال التنمية المستدامة وتسليط الضوء على أهمية مبادرات التنمية المستدامة في المنطقة العربية لتعزيز الاهتمام المشترك ومتعدد الأطراف بالتعاون البحثي وإبرام شراكات إستراتيجية.
الأزمة الأوكرانية
وأوضح صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز ولي العهد رئيس مجلس الوزراء -حفظه الله - في كلمة له في بداية اجتماع القمة العربية على أهمية «حل الأزمة في أوكرانيا سلمياً»، مؤكداً سموه أن المملكة مستعدة للاستمرار في بذل جهود الوساطة بين روسيا وأوكرانيا.
وقال سموه: «ندعم الجهود الدولية لحل الأزمة الأوكرانية ومستعدون لبذل جهود الوساطة بين روسيا وأوكرانيا، ونحن ندعم كل ما يسهم في خفض حدة الأزمة في أوكرانيا وعدم تدهور الأوضاع الإنسانية».
وتعد الزيارة الأولى التي قام بها فخامة الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي إلى الشرق الأوسط منذ بدء الحرب مع روسيا في فبراير / شباط 2022. وعبر تويتر، أعلن زيلينسكي أن هدفه من المشاركة بقمة الجامعة العربية هو تعزيز العلاقات الثنائية وعلاقات أوكرانيا مع العالم العربي.
وثمن الرئيس الأوكراني، خلال كلمته كضيف شرف باجتماع القمة العربية الـ32 في جدة، الوساطة السعودية للإفراج عن الأسرى.
أما على الصعيد الدولي فتلعب المملكة دور الوسيط لحل عدد من الملفات بما فيها الملف الأوكراني، حيث يؤدي استمرار الأزمة في انعكاسات سلبية على الاستقرار الدولي بما في ذلك تأثيرها على المنطقة العربية التي تتأثر سلباً بالحرب خاصة فيما يتعلق بالأمن الغذائي.
فالقمة العربية لم تكن قمة عادية، بل هي قمة استثنائية بكل مخرجاتها التي أكدت أننا مقبلون على مرحلة جديدة من العمل العربي المشترك الفاعل، وتصفير الأزمات في المنطقة والعمل على تعزيز التعاون والتنمية الاقتصادية التي تنعكس على رفاهية شعوب المنطقة، وكذلك يضع مصالح الأمة العربية وتنميتها المستدامة بالتعاون المشترك على رأس الأولويات للمرحلة المستقبلية وتغليب المصلحة العربية على أية مصالح خارج نطاقها.
ختاماً حققت القمة نجاحاً باهراً بامتياز وذلك لدور المملكة الريادي وثقلها الإقليمي والدولي والنظر نحو استشراف المستقبل برؤية ثاقبة، وحكمة متوازنة وهادئة وبموقف عربي موحّد، كذلك حضور القادة وزعماء العرب القمة، إضافة إلى أنها حققت جميع شروط النجاح كافة، كما أن التحضيرات لقمة جدة لم يسبق لها مثيل من حيث الكم، أو من حيث الكيف، وأن النجاح كان واضحًا، وهو نجاح قائد هذه المهمة صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز ولي العهد رئيس مجلس الوزراء -حفظه الله - في إدارة القمة نحو لم الشمل العربي والسلام، وعدم السماح بأن تتحول المنطقة العربية إلى ساحة صراعات، وجسد الدور المهم التي تكرسه المملكة في توحيد اللحمة العربية، وتكريس جهودها في دعم القضايا العربية وتعزيز الاستقرار والتنمية لكافة دول العالم العربي.