د.عبدالله بن موسى الطاير
لماذا قال العرب في إعلان جدة الصادر عن القمة العربية 32: «نعبر عن التزامنا واعتزازنا بقيمنا وثقافتنا القائمة على الحوار والتسامح والانفتاح، وعدم التدخل في شؤون الآخرين تحت أي ذريعة مع التأكيد على احترامنا لقيم وثقافات الآخرين، واحترام سيادة واستقلال الدول وسلامة أراضيها واعتبار التنوع الثقافي إثراء لقيم التفاهم والعيش المشترك ونرفض رفضاً قاطعاً هيمنة ثقافات دون سواها، واستخدامها ذرائع للتدخل في الشؤون الداخلية لدولنا العربية»؟
لأن المعسكر الليبرو-ديموقراطي سوّق الثقافة التي تروق له، والقيم التي أنتجها على أنها المخلّص المنتظر للبشرية، وما سواها تخلف تشن من أجل تنوير مجتمعاته الحروب. يقول كيسنجر في كتابه السياسة الخارجية الأمريكية: إن بلاده لا تملك سياسة خارجية وإنما ثقافة وأسلوب حياة ترى أنها الأفضل للبشرية ولديها القدرة العسكرية والاقتصادية على فرضها. ومنذ نهاية الحرب العالمية الثانية والعالم يئن تحت سياط الثقافة الواحدة والقيم المفروضة بالقوة، ومنذئذ لم تحل قضية عربية أو إسلامية ولم يتغير حال حقوق الإنسان في العالم الثالث.
لنأخذ أمثلة؛ فلسطين مثال واضح فاضح؛ إذ لم يعد هناك شعب تحت الاحتلال سوى الشعب الفلسطيني، ولم تسمح أمريكا ولا المعسكر الليبرو-ديموقراطي بفرض أي حلول على دولة إسرائيل، بل إن انتهاكات حقوق الإنسان في فلسطين المحتلة تواجه بصمم وعمى من قبلهم، وكأن الفلسطيني المسلم والمسيحي لا ينتميان للإنسانية بصلة. والمثال الآخر شعب جامو وكشمير المسلم، فمنذ عقود وقرارات مجلس الأمن بخصوص استفتاء تقرير المصير حبيسة الأدراج ولم نشهد أي تحرك لتنفيذها، وسوف أكتفي من الشواهد الظاهرة بمسلمي الروهينجيا الذين شردوا من أوطانهم ولم تتحرك مكنة حقوق الإنسان لإنقاذهم.
على صعيد الممارسات المزدوجة في مجال حقوق الإنسان، ارتكبت الدول «المختارة» بثقافتها وقيمها انتهاكات في مجال حقوق الإنسان لم ترتكبها أمة في التاريخ، كان آخرها احتلال أفغانستان فالعراق والسجون السرية ومعتقل غوانتنامو والمساجين العرب والمسلمين لعشرات السنين بالظن وبعضهم دون ثبوت تهمهم بأدلة مادية أو لم تتم محاكمتهم أصلاً. وعندما اقتضى الأمن الغربي ذلك، سجن جوليان أسانج في سفارة دولة أجنبية في لندن بضع سنوات وتنتظره في أمريكا أحكام قد تصل إلى 175 سنة بسبب جرائم معلوماتية.
باسم الثقافة والقيم وحقوق الإنسان انتهكت سيادة الدول العربية، وأطيح بالدول والمؤسسات، ولم تقدم تلك المنظومة الثقافية «السامية» حلاً نهائياً لقضية واحدة عبر العالم العربي، بل كانت تعمد إلى إدارة النزاعات وديمومتها على حساب الدول العربية الغني منها والفقير؛ فالفقير يصطلي بسعير أزمات تسببت فيها التدخلات الخارجية تحت عناوين الثقافة والقيم وحقوق الإنسان، والدول الغنية تُبتز بما يجري في محيطها، وعليها أن تواصل دفع الإتاوات حتى لا يصيبها ما أصاب جيرانها، والمستفيد النهائي مصانع السلاح، ومستشارو الموت والدمار، وشركات العلاقات العامة وجماعات الضغط في العواصم الغربية، التي تتكسب من تحسين سمعتنا التي شوهوها ظلما وعدوانا لسبب واحد وهو أننا لا نشبههم.
فاض بالعرب الحال، وملّوا من الأسطوانة المشروخة، وقرروا هذه المرة أن يكونوا هم، وأن يتصرفوا وفق مصالحهم، وأن يُعلوا من شأن ثقافتهم، وقيمهم، وأن يتدخلوا لدى المعسكر المقابل بطلب صغير جداً: أنتم تؤمنون بالتسامح والتعددية، حسناً دعونا نختلف معكم في الثقافة والقيم، ولنعمل على التكامل وليس الانصياع ليدكم العليا. هل سيقبل الغرب الليبرو-ديموقراطي هذه الطلب؟ ربما يقول لي أحدكم: ولماذا السؤال؟ فنحن لا نستأذنهم في أن يكون للثقافة والقيم وحقوق الإنسان أكثر من رواية.
أن تفرض 38 دولة تقريباً سردها للثقافة وحقوق الإنسان والقيم على 155 دولة، فذلك ليس من التسامح ولا من العدل ولا من الديموقراطية في شيء. والمطلب العربي واضح وصريح؛ لنا ثقافتنا وقيمنا ورؤيتنا لحقوق الإنسان، ولكم رؤيتكم، ولنترك للحوار والتفاعل سبيلاً لردم الفجوات وزيادة مستوى التفاهم وفاعلية التكامل. إذا قلتم لا، فعليكم أن تسمعوها بلسان عربي مبين من جدة: «نرفض رفضاً قاطعاً هيمنة ثقافات دون سواها، واستخدامها ذرائع للتدخل في الشؤون الداخلية لدولنا العربية».
هذا لا يعني القطعية، ولا غلق الأبواب، ولا يعبر عن كراهية للثقافة الغربية، ولا تحيز ضدها، ولا عداء تجاه قيمهم، فأعداد العرب اليوم من الذين درسوا وعملوا في الغرب، ويتواصلون بشكل يومي مع ثقافته وقيمه وعاداته وتقاليده وفنونه، ويستفيدون من علومه ومنتجاته وخدماته، أكثر بكثير منهم قبل عشرين عاماً، ومع ذلك فإنهم يرددون مع كوكب الشرق:
انا يا ما صبرت زمان على نار وعذاب وهوان
واهي غلطة ومش ح تعود
ولو ان الشوق موجود وحنيني إليك موجود
إنما للصبر حدود.