م. بدر بن ناصر الحمدان
أكتب لكم من مقهى «فلوريان» الأكثر عراقة، بعمر ممتد، يتجاوز أكثر من 300 سنة، داخل رواق مبنى الـ «بروكوراتي» الشاهد على عمارة القرن السادس عشر، وسط «ساحة سان ماركو» التي تمثل الفضاء العمراني الحاضن لحياة الناس وملتقى السياح وزوار المدينة العائمة فوق أرخبيل» فينيسيا» المدرجة وبحيراتها في قائمة التراث العالمي منذ1987م.
يقول «زيكو» لاعب نادي «أدونيزي» سابقاً: «إن كنت تظن نفسك نجم كرة قدم فاذهب إلى إيطاليا لتتأكد من الأمر»، وأقول: لا تتحدث عن مدينة مؤنسنة، قبل أن تعيش البندقية بكل تفاصيلها، وتجوبها «حافياً - بالمعنى المجازي -، حينها ستبرهن لك كل تلك الأزقة الصغيرة، والممرات الضيقة، وجسور القنوات المائية، وقوارب الجندول التي تمر من تحتها، والساحات العامة، والمباني التاريخية، والمقاهي، والمطاعم، وحشود الناس العابرة، أن العنوان الأبرز كان يكمن في حظر دخول المركبات إلى داخلها، مما جعل السير على الأقدام هو الأسلوب السائد للنقل في المدينة.
ما كان لهذا الحظر أن يصمد دون وجود تدابير صارمة، وقوانين ثابتة لم تخضع لتأثير المتغيرات ومتطلبات السكان، وهذا أدى إلى المحافظة على المقياس العمراني الإنساني للمدينة والذي تدركه بصرياً بوضوح وتشعر به وأنت تتجول في أروقتها حتى اليوم، مشاعر الطمأنينة التي يعيشها السكان في كل الأماكن ناتجة عن عدم الاكتراث بمخاطر المركبات لأنها غير موجودة في ذهنيتهم، هذا بحد ذاته إنجاز استثنائي على مستوى علاقة الإنسان بالمكان.
سيبقى مفهوم المدن المؤنسنة عبارة عن «حالة مؤقتة» يعيشها الناس داخل حيزات عمرانية مستقلة متى ما مرّوا أو تواجدوا بها، تتلاشى على الفور مع الاقتراب من شبكة الطرق التي تهيمن على المدن، ما يمكن قوله إن أنسنة أي مكان يبدأ بحظر المركبات فيه، فالأمر ليس مجرد «أثاث حضري» يتم اختراعه وتوزيعه هنا وهناك، بل أسلوب عيش يمكن الإحساس به.