ناهد الأغا
فلسفة الوجود تكمن بوقوف المرء بين يومين يمثلان أمسه وغده، يبصرهما في يومه الذي يعيشه، فيقرأ الدروس والعبر من الأمس في حاضره مستشرفا مستقبله، هذا هو شأن الإنسان حين يكون طفلاً ويافعاً وشاباً في مُقتبل العُمر، يستقي مفاهيم حياته، وعناوين تفاصيلها، من خبرة ناضجة وواسعة من والده، الذي عبر محيطاتٍ واسعةٍ في أيام متتالية، إلى أن وقفت به الحياة في حاضره، الذي يمد من بعده بمداد قلبه، وفؤاده، فيغدو كأنه تلك الشجرة الوارفة الظلال، التي يستظل تحتها المرء وينعم بالسكينة والراحة الكبرى، ويتولد لديه الإحساس أنه نهر جارٍ لا ينضب عطاءً وتدفقاً. تبصر العيون ذلك الأثر الجميل في أبيات الشاعر السعودي جاسم محمد الصحيح صاحب السيرة العطرة والحرف الذهبي الندي، وهو الذي كُرِّمَ وتوِّج بمهرجانات عديدة وهي: جائزة البابطين عن أفضل قصيدة عربية (عنترة في الأسر)، وجائزة أبها الثقافية عن ديوان (ظلِّي خليفتي عليكم)، وجائزة البابطين عن أفضل ديوان عربي (ما وراء حنجرة المغنِّي)، وجائزة الثبيتي في نادي الطائف الأدبي عن أفضل ديوان عربي (كي لا يميلَ الكوكب)، وجائزة راشد بن حميد للثقافة والفنون بعجمان قسم الشعر، وجائزة وزارة الثقافة في السعودية عن الأعمال الشعرية، وجائزة (شاعر عكاظ)، وجائزة (السنوسي) في نادي جازان الأدبي عن ديوان (قريبٌ من البحر بعيدٌ عن الزرقة)، وله الدواوين الشعرية العديدة، ويشار لها بالبنان تميزا وتألقا وإبداعا.
حينما رثى والده -رحمه الله- في أبيات بليغة كتبها بقلبه الذي أعتصرَ ألما وجزعا لفراق أب عطوفٍ، شكل سدا منيعا لذلك الابن، الذي لم يشعر يوما بقسوة الحياة وألمها طيلة حياة والده، وكأنه طفل صغير لم يشعر ولو للحظة بسيطة أنه كَبُرَ، مشبها والده بالفعل المضارع، الذي يمتاز بالاستمرار والتجدد، ثم يجد نفسه أصبح كهلاً، وبدا ينحني ظهره، وتظهر عليه وعلى وجهه وجسمه معالم الزمن القاسية التي اشتعلت كما تشتعل النار في الهشيم.
أتصفح في أبيات الرثاء البليغة، التي أقرأها بمهجة الفؤاد، قبل مرورها أمام العينين، وتلفظ الشفاه بها، وأعبر خلال ومضات في رحلة طويلة تعصف بالوجدان كلمح بالبصر، فكم من دلالة قاسية تتضمنها تلك الكلمات الدامية، حين يقول:
روحُ الأُبُوَّةِ تحمينا من الكِبَرِ
ما مِنْ أَبٍ فائضٍ عن حاجةِ البَشَرِ
ما مِنْ أَبٍ فائضٍ عن حجمِ لهفتِنا
للحُبِّ.. للفطرةِ الأَسْمَى من الفِطَرِ
آباؤُنا.. يا لَأَفْعَالٍ مضارعةٍ
مرفوعةٍ بالضَّنا والكدِّ والسَّهَرِ!
هُمْ يحملون الليالي عن كواهلِنا
فيكبرون ونبقى نحن في الصِّغَرِ
اليومَ أَنْهَتْ بِكَ الأقدارُ لعبتَها
نهايةَ الوَرَقِ الخَسْرانِ في البَشَرِ
عندي من الأمسِ ما أنتَ احْتَطَبْتَ معي
عُمْرٌ يشبُّ بتَنُّورٍ من الذِّكَرِ
أَوْصَيْتَني والمدى يطوي مراحلَهُ
وَصِيَّةَ الخُطْوَةِ الغَرَّاءِ للأَثَرِ
ليذهب الشاعر إلى تقديم الوصية هو إلى ولده، الذي يتمنى له مستقبلاً أفضل وأياما مشرقة، مستمداً هذه الرؤى مما كان لوالده من قبل، وهو يحثه في سيره ومسيرته وكم هي من فكرة مؤلمة حين أحس الأب نفسه عاجزاً بعد وفاة الحكيم والسند له، وكم أصبح حجم العبء الذي ألقي على كاهليه،أيكون عونا لنفسه فقط، أم يُعين نفسه وابنه أيضاً؟! شعور لا يمكن تخيله، فيا لها من صعوبة بالغة لمن أبصر منذ يومه الأول الملاذ والأمان، والدفء، ومن يسند ظهره، أن يغدو بين عشية وضحاها فاقدا لذلك السد المنيع، لكنها إرادة الله ومشيئته ولا اعتراض على أمره ومشيئته.
آه كم أدركت حجم تلك المعاناة، حين قال الشاعر جاسم الصحيح، في قصيدته التي يوصي فيها ابنه (ما لم يقله لقمان لابنه):
أبي ماتَ يا ولدي
وأنا الآنَ
أَضْعَفُ من أنْ أكونَ أَبًا لي ولَكْ
فدَعْنِي وحيدًا
أراقصُ أنثى الظلالِ
على وَهَجِ الذكرياتِ التي بيننا
كلَّما خاطري أَشْعَلَكْ
وخُذْ ما تبقَّى من العُمْرِ..
خُذْهُ وحَطِّمْ بِهِ قيدَ ماضيكَ..
حَرِّرْ بِهِ أَوَّلَكْ!
ونَزِّهْ عن النقصِ ذاتَكَ
فالنقصُ أنْ تتبرَّعَ للآخرينَ
بأنْ يُكمِلوكَ..
فلا بُدَّ منكَ لكي تُكْمِلَكْ!
كان ماضيكَ لي
غيرَ أَنِّي
سأترككَ اليومَ تصنعُ مستقبلَكْ
سأترككَ اليومَ
تدخلُ وَحْدَكَ جُبَّ الحياةِ
فوَسِّعْ بِهِ مَدْخَلَكْ
نعم، ماذا عساني أقول سوى أنه بحق عندما يرحل الأب، ترحل معه كثير من المعاني القيمة، التي لا يمكن معرفتها وإدراكها إلا به، ربي ارحم برحمتك الآباء الأطهار، واحفظ بعين رعايتك من هم بيننا الآن، واجعل الأبناء قرة عين لأهلهم. لقد لامست هاتان القصيدتان شغاف قلبي، حين قرأت حروفهما الندية، وتذكرت والدي رحمه الله وأسكنه فسيح جنانه، وتعاظمت في نفسي صورة ولدي الوحيد الذي وهبني الله إياه، لقد أتقن الشاعر المبدع جاسم محمد الصحيح في أبياته الذهبية الندية ملامسةَ شغاف قلبي، وما زال لساني يلهج بالدعاء بالرحمة لوالدي رحمه الله، وإلى ولدي الوحيد الحبيب حفظه الله وأدامه سنداً لشقيقاته الثلاث.