(1) أهداني الأخ الكريم.. والكاتب المثقف الأستاذ عبده الأسمري آخر كتبه الموسوم بـ(بصائر ومصائر) المنشور حديثاً عن دائرة الثقافة بالشارقة/ الإمارات العربية المتحدة 2022م في طبعته الأولى.
ولما بدأت التصفح الأولي.. ثم القراءة الاستكشافية كتبت هذا البيت الشعري وأرسلته للمؤلف الحبيب:
(وصل الكتاب فمرحباً بوصوله
والشكر ألفاً للذي أهداني)
صباح الأربعاء 25-6-1444هـ
* * *
(2) وبدأت رحلة القراءة الاستمتاعية التي أسعى لتحويلها إلى قراءة إبداع وإنتاجية، فكل قراءة لا تقود إلى مخرج/ منتج جديد فهي قراءة استهلاكية.. ولذلك كانت (المقدمة) و(ثبت الموضوعات/ الفهرس) و(الخاتمة) مداخل أولية تعرّفت من خلالها على المحاور الأساسية في الكتاب، وتشعباتها وتفريعاتها، والمواطن الموضوعاتية والمحتوى المتشكل من خلالها ثقافة وإبداعاً أسلوبياً!
كانت المعرفة، والثقافة، والتشكل المبهج للإنسان من خلالهما هما (المصائر) التي يؤول إليها متعاطيها، وهما (البصائر) التي تقود صاحبها في تكامل واندماج، وانصهار إنسانوي/ بشري بدأت حياته متعلماً عبر الكتاب المفردة.. ثم الكتاب المنتج، وعبر القلم/ كتابة، والقراءة تثاقفاً، وتستمر الحياة عبر مراحل العمر المختلفة فيتوسل الإنسان بماضٍ عاشه واكتسب فضائله ومعاشه، وبحاضر يحياه ويتقلب فيه، وبمستقبل مأمول/ منشود يتطلع إليه بعد اكتساب الأدوات الفاعلة لتحقيق (المصائر) المبهجة.
* * *
(3) في ظني - وبعض الظن فكرٌ راشد، وحَسَنٌ وسداد! أن ما بين دفتي (البصائر والمصائر) مقالات ثقافية، فيها فكر وارف، ورؤى عاقلة رشيدة، واستنطاقات ثقافوية مستقبلية، يقرؤها القارئ دون ترتيب أفقي، فيحصل على المعرفة من أي مقال/ موضوع يراه.. وهذه ميزة محفزة على التواصل والتثاقف على هذا المنتج العزيز والغزير مادة وعلماً وفكراً ومعرفة.
اقرأ مثلاً موضوعه الموسوم بـ(الكتابة بين الطقوس والدروس) ص ص75-77، لتجد قدرة الكاتب على تحويل هذا الموضوع العادي جداً والذي كتب عنه الكثيرون إلى أبجدية فارهة تتعاطى مع متن (الكتابة) عبر ثلاثية المبتدأ أو البدايات، والمستقر أو المآلات، والدرس أو الرسالة/ المضمون!
ففي البدايات/ المبتدأ تتشكل (الكتابة) تعريفاً فهي «المعنى العظيم الذي يصور المشاهد أمام الأرواح، فتراها واقعاً ملموساً في هيئة حروف وكلمات وعبارات»، كما تتشكل (الكتابة) نمطاً حيث «تتجاذب مع الفكر وتنجذب إلى التفكير.. في عالم مرئي ومعلم مسموع».
ثم تتفاجأ كقارئ باستطرادات تعريفية عن (الكتابة) وطقوسها وأدواتها من قلم وورقة وكاتب وفكرة ومناسبة وتعبير ووقت وعقل «يشحذ الهمم من منطق السلوك إلى انطلاقة المسلك».
وفي المنتهى المستقر/ المآلات «تستقر الكتابة في النفس كموجة تلامس العقول وتنتظر الهطول ومعادلة ترتقب الحل وجائزة تنتظر الفوز». كما تستقر وتؤول إلى «السكينة على المواجع والطمأنينة في الروح» وتصبح «سلاحاً لوأد الهمم، وكفاحاً ضد الغم، وبوحاً أمام الصمت، وانفتاحاً رغم الانغلاق».
وفي المحتوى/ المضمون والرسالة، تتشكَّل (الكتابة) كمهارة وموهبة «تملأ النفس بالتوازن وتشبع الروح بالاتزان» وتتشكل «كبوابة للأفكار وانطلاقة للابتكار»، وتتشكل دواء لرفع المناعة الذاتية ضمن السأم والصدمات.
بهذه الثنائيات اللغوية، والفنيات الأسلوبية يقنعنا المؤلف/ عبده الأسمري، بقيمة الكتابة التي نتج عنها الموسوعات والمعاجم وخرجت العلماء والعباقرة وأصبحت منصة تشع منها المعارف والعلوم والأفكار!
وهذه المقالة - رغم اختيارها العشوائي - تدل على قيمة الكتاب، إذ يقرأ من أي مكان فهو مقالات وموضوعات تتعاضد وتتنامى لتشكل أسلوباً كتابياً جديداً في التآليف غير المحصورة في خط مستقيم يؤدي أوله إلى آخره وإنما في استيعابه للحالات النفسية في التتبع القرائي وعدم الملالة واللا انسجام في القراءة.
ولعل في هذه الاختيارية/ القرائية دليل على قدرة كتاب (بصائر ومصائر) على جذب القارئ للاختيار المفيد عبر فهرس المحتويات ليجد موضوعات شتى لا يجمع بينها إلى فضاء المعرفة والثقافة والفكر والإبداع، في أسلوبية كتابية ماتعة ومبهرة!
* * *
(4) والكتاب مائز باختيارات موضوعاته، وميادين كتاباته، ومحاور مناقشاته، وقد رصدت جملة من تلك الفضاءات التي لو رتبت في مباحث أو فصول لكونت كتاباً عادياً كالتي تعرفها ونصبح ونمسي عليها (ثقافة وتثاقفاً)، ولكن المؤلف الكريم أراد لها التشظي والتفرق ليكون للقارئ دور في التبويب والترتيب القرائي، وهذا نوع من الإبداع والتجديد.
ولعلي أشير هنا إلى ما يمكن موضوعته في ثلاث محاور جدلية رئيسة وهي:
(1) المعارف وما في مدلولاتها من المعرفة والفكر والإبداع.
(2) الثقافة وما في مدلولاتها من كتابة وآداب وفنون والإنتاج الأدبي والإبداعي ودور ذلك في السعادة والبهجة الاجتماعية.
(3) الإنسان والنفس البشرية وما حولها من حرية، وتجارب حياتية، وأماكن معيشية وأمراض نفس، وأنسنة وسلوك بشري وإنساني، ومصائر الإنسان نحو الموت والعادات والتقاليد والهويات الإنسانوية!
وبإمكان القارئ الكريم أن يختار من كل بستان زهرة، ومن كل نهر قطرة، ومن كل سماء غيمة! وأن يتفاعل مع هذه الموضوعات والإبداعات بالنقاش والحوار الداخلي أو الكتابي فليس كل ما فيها مسلمات وإنما هي مقابسات ومثاقفات تعطي وتؤمن بحق الجميع في التغذية الراجعة.
* * *
(5) ولعل وقفتي الأخيرة مع العنوان اللافت لهذا الكتاب فهو يلخص كل ما جاء في الكتاب من مقالات ويكنفها لغوياً في كلمتين غير معرفتين (بأل التعريف) وهما: بصائر ومصائر وقد جاء بهما (نكرتان) لدلالاتهما المتنوعة والكثيرة والعديدة فكل مقال وموضوع يحمل من الأفكار والعلوم والمعارف ما يحتاج إلى رصد أسلوبي وموضوعاتي لا تستطيع هذه الورقة النقدية إحصاءها واستيعابها.
كما نجد في هاتين الكلمتين/ العنوان، قدرة بلاغية وأسلوبية فتحس فيها ما يعرف في البلاغة العربية بـ/ الطباق وهو جمع الشيء وضده في كلمة واحدة من حروف متقاربة فـ(البصائر) هي (المصائر) والاختلاف جاء في حرفين (الباء) في الأولى و(الميم) في الثانية وهذا قمة الإبداع الذي يتناوله النقاد تحت مبحث العتبات النصيَّة أو العتبات الموازية أو العتبات العنوانية.
وينسحب هذا المفهوم الجمالي على كثير من العنوانات الداخلية التي تكتنز بأساليب بلاغية وجمالية من سجع وطباق وجناس، وتورية، وتشابه لفظي، واختلاف في المعنى ومحسنات بديعية لفظية ومعنوية، ومثل ذلك من العنوانات التي تحمل جمالياتها وفنياتها من أسلوب بنائها وتركيبها الثنائي:
المعارف بين التقويم والإهمال
الحياة بين التجارب والمآرب
الكتابة بين الطقوس والدروس
أسرار الأمنيات وأسرار الذات
الثقافة الإنسانية بين الوفاء والاستيفاء
وتتحرك هذه الثنائيات البديعية في داخل المقالات والموضوعات بشكل أكثر احترافية وجاذبية مما يعني التفرد الأسلوبي، واللغة المائزة والتجليات الإبداعية.
وكل هذا يدل على ما يملكه المؤلف من ثراء لغوي وأسلوبي بياني وفصاحة لغوية تتماهى مع أناقة الحروف والفكرة، وجودة البناء المقالي، ونصاعة البيان، والتفرد في الأسلوب مؤكداً في نهاية هذه المقاربة أن الكاتب الأستاذ عبده الأسمري يمتلك خاصية جمالية مائزة، ولغة مكثفة موحية ودالة وأساليب أدبية غاية في الروعة والمقروئية ومن قلمه.. وفكره تورق الحروف وتثمر المفردات.
والحمد لله رب العالمين.
** **
- د.يوسف حسن العارف