عشيّات الحِمَى: سيرة طفولة لكاتبها أ. د حمد البليهد، صدرت في طبعتها الأولى عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر عام 2021، ولم تتح لي فرصة قراءتها إلا قبل وقت قصير، فعمدت إلى البوح هنا بما لمسته فيها، وإن كنت لا أدعي أن هذا البوح قراءة نقدية معمقة، بل هو ما قبل القراءة، ولعلي في فرص قادمة أتبع ما كتبت بقراءة أكثر جودة وعمقًا.
مع إمكانات البوح والاعتراف والنبش في الأسرار التي تكون مادة ثرية للسير عادة، فإن سير الطفولة -غالبًا- لا تجد حرجًا في ذلك طالما انتقت زمنًا عمريًا محددًا؛ يغلب عليه النقاء، وتتلبسه البراءة، وتحكم سلوكه العفوية، لتحاول أن تجمع شذراته من حكايات متفرقة، وروايات الآخرين المتداخلة، وذاكرة الكاتب نفسه التي حفظت وحذفت في الوقت نفسه؛ حتى تكتمل الصورة.
والمفارقة أن (نجد) بظروفها التاريخية العصيبة، ومعالمها البيئية المتصحرة، ومواسمها المناخية الحارة الجافة، وأحوالها المعيشية الصعبة آنذاك؛ استثارت في نفس الكاتب هذه اللغة السردية المتينة الرقيقة التي روضت جموح السرد المشاكس تارة، وخففت وطأة السرد المتألم تارة، واحتضنت السرد المفعم بالسعادة تارة أخرى، كاشفة عن مشاعر لم تكن على وتيرة واحدة؛ طالما كانت أحداث الطفولة نفسها بين شد وجذب، وإقبال وإدبار، وسعة وضيق.
وإن كان الكاتب يقدم جزءًا من تجربة حياته في هذه السيرة الطفولية، إلا أننا لا نعدم إشارات متفرقة جعلت منها وثيقة مهمة لا عن حياته فحسب، بل عن تلك الحقب الزمنية التي عاشها، وتلك الحقب التي استدعاها من سيرة الأجداد والآباء والأمهات، وتلك الأماكن التي صورها بين منطقة نجد والمنطقة الشرقية، وامتدت إلى الحجاز، ثم جاوزت إلى العراق، وشذرات متناثرة من الجغرافيا والتاريخ والأدب، تتنقل من مقولات الفلاسفة إلى الشعر الشعبي والأساطير والحكايات الشعبية، إلى شروح للهجات والمفردات، التي رفدت عوالم الحكاية بأنموذجها السردي السيري.
وتتجانس السيرة مع عتباتها بعنوانها المستلهم من بيت للصمة القشيري (عشيات الحِمى) وعنوانها الفرعي الذي عينها ضمن هذا الجنس الأدبي (السيرة الذاتية) وفي فرع أثير، يجوب عوالم الطفولة، ويرصد خباياها، ويكشف أسرارها، حتى شبه المعلنة منها، حاملًا معه ما أمكن من ذكرياتها وشجونها، وومضات السعادة تارة، ونفحات الشقاء تارة أخرى.
وتحمل تصديراتها النفس التراثي البعيد، عربية كانت أم عالمية، لكنها في شطرها العربي تحمل نفس الحنين إلى الماضي الذي لن يعود حتمًا، وفقًا لقانون الحياة الزمني، لكنه قد يعود متدثرًا بلباس السرد، وفي شطرها (غير العربي) تميل إلى تشخيص حالة الكتابة عن الماضي في نصفين، أحدهما (اختراع) والآخر (ذاكرة) مع بورخيس، ثم لا تلبث أن تصور هذا الماضي متلبسًا بحالة (الحلاوة) التي سرعان ما تعكرها (ملوحة) الدموع مع فيثاغورس؛ لتحيل إلى محتوى السيرة، وطبيعة الحياة نفسها، متجانسة مع الإهداء الذي تحول إلى أنشودة حنين للماضي بشخوصه وأحداثه أيضًا.
أما الغلاف، تبدو صورة الماضي فيه شاحبة أخفت أكثر مما أبانت، كما هي ذكريات الطفولة التي تبدو قريبة وواضحة حينًا، وبعيدة ومتداخلة وضبابية في أحايين أخرى، وهي تتوشح باللون الأزرق، وتتداخل مع مسودة السيرة التي كتبت بخط المؤلف ليكون في زمرة الكتاب الذين آثروا أن تتشكل حروف الكتابة وكلماتها لديهم بطبيعتها العفوية قبل أن تقتحمها هزات التغيير (التكنولوجي/ التقني)، إذ إنها حتمًا ستجد طريقها إلى المطبعة في مرحلة تالية، لكن المرحلة الأولى ألصق بالروح، وأدعى للتفكير، وأقرب للذاكرة.
واللون الأزرق (البحري) وإن اختلفت دلالاته أحيانًا من ثقافة لأخرى، ومن شرق لغرب؛ فإنه ظل يحتفظ ببعده الإيحائي الذي يلون الكون، من زرقة الفضاء الأعلى (السماء) إلى زرقة الفضاء الأدنى (البحر) ليتجانس مع المكان الذي احتضن حياة الطفولة على ضفاف الساحل الشرقي، وربما لم تحظ (نجد) بلون رمالها الذهبي سوى بجزء منها، وإن كانت تستدعى مرات ومرات في سرد تاريخ الآباء والأجداد؛ لتغدو غائبة حاضرة في الوقت نفسه. وللأزرق من اسمه نصيب، وهو يقتحم صحراء نجد مذكرًا ربما بزرقاء اليمامة التي سكنت المكان، وكما اقتحمت الزرقاء روايات المكان، اقتحمت زرقة الغلاف ومعها زرقة المكان (الساحل الشرقي) المكان نفسه، معلنة الانتصار لنصيبها من حكايات الطفولة.
وما أن نتجاوز العتبات حتى يستقبلنا المتن، ليأخذنا إلى رحلة الكتابة بين رهبة البدايات، واستدعاء الذكريات، وتركيب الحكايات، وعبور المحطات؛ ليعيد كتابتها في قالب سردي يستدرج حياة الطفولة من وكرها لتخوض مغامرة الحضور والغياب، ولتتجلى سيرة المروي الطفولي الذي يخاتل الواقع، ثم يلامس شيئًا من حدود التخييل.
وإذا كانت السيرة عادة لا تستدعي حياة كاتبها فحسب بل تحمل أطياف حياة من حوله أيضًا، ولا سيما من شاركوه إياها وكانوا جزءًا من أحداثها المباشرة، إلا أن ذاكرة الكاتب أبت إلا أن تطوف في محكي يتناوب بين ذاكرة قريبة نوعًا ما (ذاكرة الطفولة) وذاكرة بعيدة محملة بحكاية الأجداد ثم الآباء، وكأن الذاكرة القريبة لا تنفك عن تلك البعيدة بل تتخذها مظلة تحتمي بها من حين إلى آخر، وكأن المعاناة الغالبة على تلك الذاكرة البعيدة تخفف من وطأة معاناة الذاكرة القريبة، أو لعلها ترفدها بشيء من تاريخ عائلي ممتد، يفصح عن الجذور التي كانت سببًا في وجود الفروع لاحقًا، وهكذا تراوح الحكايات بين (كانوا) البعيدة التي استجمعت الذات الكاتبة خيوطها من ذاكرة الآخرين على الأغلب، لا سيما ما كان منها قبل خروج هذه الذات إلى الحياة، وبين (كنت) القريبة، التي أخذت تفاصيلها من ذاكرة الذات وحكايات أخرى متناثرة تسد بعض ثقوب الذاكرة التي حتمتها عوامل كثيرة منها: صغر السن، وصعوبة الإدراك، وتعثر فرص التذكر.
تأخذنا السيرة بعدها في ثنائيات متجانسة بين: الحياة والموت، الرخاء والشدة، المكان والمكان الآخر/ مكان الانتماء ومكان النشأة، الحب والكراهية، اللين والقسوة، النجاح والإخفاق، السقم والبرء، عالم الفتيان وعالم الفتيات، الخطيئة والبراءة، القبول والرفض، ثم سرد الطفولة ووقفات سردية شبابية مؤقتة تستدرك صلة بذلك الماضي المروي.
وللحديث بقية...
** **
- أ. د. حصة المفرح