ينطلق الناقد المغربي إبراهيم الكراوي في كتابه الجديد «بلاغة الواقعية الجديدة في الرواية العربية» الصادرة عن إديسيون بلوس (EDITIONS Plus) من سؤال الواقعية في الرواية العربية باعتباره سؤالًا محفوفًا بالمخاطر وإشكالية القضية في حد ذاتها، حيث يطرح أسئلة متعددة من قبيل: هل يعني تمثل أسلوب الواقعية إقصاء للتخييل أم نوعًا من تخييل الواقعية؟ وهل هناك حدود للواقعية؟ وما الحدود القائمة بين الواقعي والتخييل؟ وما حدود العلاقة التي تربط الرواية ذات النزعة الواقعية بالتاريخ أو حتى بالرواية السيكولوجية أو السوسيولوجية بتعبير غولدمان؟ هل يمكن بالفعل الحديث عن رواية واقعية بالمعنى الخالص؟... وغيرها من الأسئلة المهمة التي تؤسس للخطاب الجمالي للرواية العربية، ومدى تحقيقها لشروطها الخاصة والعامة.
يجيب إبراهيم الكراوي عن هذه الأسئلة من خلال وقوفه على حدود الواقعية وظهور الواقعية الجديدة وتطورها مع السيميولوجيين وفقهاء التأويل، حيث ينعكس ذلك على أسلوب وشكل الرواية؛ فالواقعية المثالية مع ستاندال وفلوبير تختلف عن الواقعية الأيديولوجية في «الأرض» مثلًا، «ويمتد الاختلاف إلى الواقعية الجديدة التي تبنت البحث عن شكل جديد للواقعية؛ ومن ثم، الانتقال إلى خطاب الواقعية وما يتبع ذلك من قضايا تهم الشكل مثلما الأمر بالنسبة لمارسيل بروست وروب غرييه وميشيل بوتور وناتالي ساروت... وقد نعثر في أعمال ريموند كينو بعد الجدل الذي صاحب ظهور كتابات الشيء الحداثية، أسلوب يتمرد على ما سمي بتشظي الرواية وتجاهلها النزعة الإنسانية وكل اهتمام بعالم الحكي» (ص. 30).
ويؤكد المؤلف على أن الرواية العربية قد عالجت وتمثلت قضايا الوجود والحاضر من خلال مرجعيات الذاكرة ومختلف تمثلاتها، فهي تحرر الخطاب الواقعي من الأحادية والمطلقية والقدسية التي تضع حدودًا تحول دون الإبداع، بل تعوق إنتاج الرؤى للعالم. فالواقعية هي نتاج أنتروبولوجيا تحفر في مزاج العصر وثقافته، والأنا التي تدخل في لعبة الاختلاف وتتجاوز مفهوم الانسجام والتماهي المعروف في الواقعيات الكلاسيكية. وفي هذا الصدد يعالج الكراوي الواقعية الجديدة وبلاغتها، قبل دخوله القسم التطبيقي، من خلال وقوفه نظريًا على عناصر من قبيل: الذاكرة وأنساق الواقع، الرموز والعلامات وإعادة تدوير الواقع، التفاصيل والهوامش، الانزياح عن الواقع، أسطورة الواقع، استعارة الواقع.
سرديات الذاكرة ورمزية الموت
يرى المؤلف أن الذاكرة في السرد الروائي العربي المعاصر تتنازعها مجموعة من الثنائيات: الذاتي/ الموضوعي، المكاني/ الزماني، المقدس/ المدنس، الفرد/ السلطة؛ حيث تعكس المتون الروائية، التي تعرض لها بالتحليل في الفصل الأول من القسم التطبيقي، تمركزًا سرديًا للبطل باعتباره علامة من علامات تمثيل الذاكرة بمختلف أبعادها المذكورة سابقًا.
وفي هذا الصدد يقارب الكراوي في الفصل الأول رواية «هنا الوردة» لأمجد ناصر، رواية «المغاربة» لعبدالكريم الجويطي، ورواية «أولاد الغيتو» لإلياس خوري، ورواية «رجال تحت الشمس» لغسان كنفاني، ورواية «ممر الصفصاف» لأحمد المديني.
تعكس هذه النصوص الروائية المذكورة الذاكرة الفردية والجماعية تارة، وتارة أخرى تعكس نوعًا واحدًا منها، أو تقدم الموت على أنه علامة على وجود محدد وذاكرة تكشف عن أسرارها، أو تعكس رمزية الموت وارتباطه بالذاكرة الجماعية المرتبطة بسنوات الرصاص التي تحاول السلطة محوها نهائيًا؛ إن الذاكرة تنتج في الرواية أنساقًا تكرس بلاغة السرد من خلال انحراف معنى الموت ذاته عن مساره الطبيعي، ليصير موتًا رمزيًا مضاعفًا، ينتج ألم الانفصال والانقطاع عن الذاكرة وفقدان الهوية.
الانزياح السردي وخطاب الواقعية
يحاول الكراوي في الفصل الثاني أن يحدد معالم تشكلات ومسارات الخطاب السردي الذي يمنع بشكل أو بآخر إيجاد الحدود بين الروائي والشعري وبين الرواية والقصيدة، بل بين الشعر والسرد في الوقت نفسه؛ إنه يرى أن هناك نوعًا من التمرد على تقاليد الكتابة ومحاولة تشكيل خطاب حول الواقع يستند بالضرورة على الانزياح، كما هو الشكل في رواية «هياج الإوز» لسليم بركات التي اشتغلت على نحت أساليب وطرائق جديدة على مستوى الخطاب الروائي؛ حيث تعكس اللغة السردية سيكولوجية شخوص الرواية المتبرمة من قضايا واقع الهجرة واللجوء، وما يتعلق به من حق في الوجود وتبني الرأي وضمان حق المهاجر في ذلك باعتباره ذاتًا إنسانية بالإضافة إلى السخرية من العالم.
يتجلى البناء السردي في رواية «بلاد القايد» للروائي اليمني علي المقري، حسب المؤلف، في كونه تجليًا رمزيًا للواقعية الروائية، وعاملًا مهمًا في كل الخطاب الروائي كتمثيل لسردية الانتقال من مكون الواقع بوصفه محتوً ى إيديولوجيًا إلى سرديات الواقع ينسج روائية النص؛ حيث تتجلى جماليات السرد في النص في محاولة سبر الواقع وتحويله إلى شكل محتوى ينسج روائيته الخاصة.
أسئلة جمالية الرواية العربية: الذاكرة وتخييل الواقع
ينطلق الكراوي من ذاكرة الشخوص الروائية للحفر في الواقع الملتبس بأسئلة كل ما هو فكري وجمالي وأنتربولوجي في إطار العلاقات المتشابكة والمتشعبة معه، ومظهرًا يكشف تشكلات الخطاب الروائي؛ حيث يعمل في هذا الإطار على تحليل رواية «بأي ذنب رحلت؟» للروائي محمد المعزوز والتي تنفتح على العمق الإنساني بكل تمثلاته الثقافية والرمزية والوجودية والجمالية.
ويعد خطاب العتبات في رواية «مصائر: كونشرتو الهولوكوست والنكبة» لربعي المدهون خطابًا مهمًّا داخل النسيج النصي حسب المؤلف، فهو خطاب يعمل على التأثير في سيرورة القراءة من خلال حضور سلطة الكاتب في المقدمات التي ترد باسمه. وفي هذا الصدد تكون مسألة تحرك الشخصيات داخل الفضاء الروائي، والعلاقات الرابطة بين كل شخصية من الشخصيات بالمكان وبين بعضها البعض، تكشف محورية هؤلاء الشخوص كأساس للحكاية وتمثيلها للواقع. فالشخوص التي تدخل في صراع ومواجهة مع شخصيات تنتمي إلى نسق السلطة والاستعمار الإسرائيلي تضعنا في صلب علاقة الخطاب الواقعي بالتخييلي الروائي.
إن شخصيات رواية «مصائر» (باقي هناك،....) الموسومة بنزعة رمزية تحاول الابتعاد عن الوصف الذي يراكم سمات ومواصفات تحيل إلى مرجع الواقع وتتحدد باعتبارها ذاتًا ممتلئة سيكولوجيًا بشكل أو بآخر. حيث يبرز لنا أن هنا معالم لخطاب الواقعية الحداثية المتمثلة في الحفر الأركيولوجي للسارد في هوية وأصول الشخصية والسماء التي ترتبط بمصير إنساني هو في حد ذاته مأساة النكبة وتهجير الفلسطيني في مقابل ارتباطه بالأرض والهوية والتاريخ وتمثلات الأنا والآخر.
إن مقاربة نص روائي مثل رواية «القارورة» ليوسف المحميد يتطلب من الناقد أن يقف على اعتباره علامة نسقية، بل مستوى عميقًا متشكلًا من خلال ما تحتويه القارورة في حد ذاتها وتعالقها مع دوال الخطاب الروائي وأنساقه. حيث يعتمد إبراهيم الكراوي في تحليله للنص المذكور أن السارد يعتمد استراتيجية تنهض بوظيفة تمثيل الواقع والإيهام به، باعتبار الواقعة السردية في الروايات التي تنزع إلى تمثيل الواقع تحتل موقعًا استراتيجيًا في إطار النسيج الروائي. إن أهم ما يمكن الوقوف عليه، كما يؤكد على ذلك الكراوي، في الرواية هو أننا أمام خطاب يتميز باقتحام وحدة نسقية داخل الخطاب باعتباره صوتًا للشخصية الرئيسة في النص والمركزية بل والعلامة التي تشتغل داخل الخطاب، ولعل أبرز أبعاد التمفصل المزدوج هنا هو بناء خطاب الواقع الذي يعد مشهدًا مركبًا يكشف تعدد الأصوات السردية.
ويقرأ الكراوي، في الفصل السابع والأخير من الكتاب، رواية «العفاريت» للروائي المغربي المرحوم إبراهيم الحجري قراءة تستند إلى البحث عن المرجعية الثقافية واللاوعي الجمعي باعتبارها رواية تستمد تفاصيلها من الواقع اليومي والثقافي والتاريخي للمجتمع المغربي، حيث تعدد الخطابات التي تتقاطع وتلتقي فيها علامات تتوزع بين الأنثروبولوجي والواقعي والنفسي والنقدي. ويؤكد الكراوي أيضًا على أن بناء السرد في الرواية ينطلق من النواة الدلالية التي تحضر باعتباره منتوجًا دلاليًا للعلامة، وتنمو وتتطور هذه النواة كلما دخلت في نسج علاقات مع العلامات الأخرى.
** **
عزيز العرباوي - كاتب وناقد مغربي