حنان بنت عبدالعزيز آل سيف
«ما ساءني خدري.. وعقد عصابتي»
أبدعت المرأة في مجالات جمة، وكان هذا الإبداع قديماً كقدم الزمان، وكتب السير والتراجم والتاريخ والأدب والحديث خير شاهد على نبوغها وخير دليل على تفرّدها وقد قطعت هذه الكتب قول كل خطيب، بل إن هناك نساء متضلعات وقد كان البعض منهن أساتيذ للرجال وعلى قدر أهل العزم تأتي العزائم، ويجدر بنا في هذا المقام طرح المثال، وضرب الأسوة وعلَّ من أبزر الأمثلة على هذا المقال الأديبة الشاعرة «خنساء العصر الحديث: عائشة عصمت بنت إسماعيل باشا بن محمد كاشف تيمور، وقد اشتهرت بعائشة التيمورية».
ولدت عائشة في عام 1840 في أحد قصور «درب سعادة»، حيث عاشت في رغد وسعة من العيش وربيت تربية العز والدلال، من عائلة أرستقراطية عريقة، فأبوها إسماعيل باشا تيمور رئيس القلم الأفرنجي للديوان الخديوي، في عهد الخديوي إسماعيل، وهو منصب يعادل منصب وزير الخارجية حالياً، ثم تطورت به الحال فأصبح رئيساً عاماً للديوان الخديوي، وقد كان رجلاً سياسياً معروفاً، فبيتها بيت علم وأدب وثقافة ومعرفة وسياسة، وقد كان والدها يعشق الأدب، وكان شغوفاً بمطالعته، فورثت عنه ابنته عائشة حب مطالعة كتب الأدب، والتنزه بين رياضها وأفيائها، ولما بدت عليها مخايل عشق الأدب، حاولت والدتها أن تثنيها عن قصدها وتعلمها تعليم بنات جنسها من طبخ وحياكة وتطريز، إلا أن عشق الأدب قد تيمها، وقد كان والدها أحذق بطبيعتها من والدتها، فهيأ لها السبل، وعلى أثر ذلك تعلمت من والديها اللغة التركية واللغة الفارسية وتعلمت في القصر والكتابة والإشراف على مجالس العلم والأدب في القصر، فأخذت النحو والعروض عن فاطمة الأزهرية وستيتة الطبلاوية، وأخذت الصرف والفارسية على يد خليل رجاني، وأخذت القرآن والخط والفقه على إبراهيم تونسي، وحفظت عشرات الدواوين، وطالعت كنوز الأدب، وأتقنت نظم الشعر باللغة العربية حتى برعت، وكانت تنظم الشعر بلغات ثلاث وهي العربية والفارسية والتركية ولها دواوين من كل لغة، وتميز شعرها بالقوة والجزالة، والبناء الدرامي السليم والحوار الجيد ورقة المشاعر ورصانة اللغة. وديوانها ( الاشقوفة) كان باللغة الفارسية، وفيه خواطرها وأرائها الفلسفية. وكان زوجها كاتب ديوان وهو محمد بك توفيق الإسلامبولي، حيث تزوجت وهي في الرابعة عشرة من عمرها، ورزقت منه ببنتين وولد، وبعد وفاة زوجها التي ذهبت بمعيته إلى إسطنبول، عاشت أيامها الأخيرة في القاهرة.
ومن أهم ما تميزت به عائشة التيمورية هو تألقها في فن الرثاء وسبب هذه القريحة المتوقدة هو أن الدهر رماها في فقدان ابنتها ( توحيدة) كما رمى الدهر سابقتها (خنساء العصر القديم) تماضر بنت عمرو بن الحارث بن الشريد في أخيها صخر، حيث ورث الأدب منهما أرق أشعار الرثاء، وقد حصلت عائشة التيمورية من الخنساء الصحابية الشاعرة الجليلة لقب (خنساء العصر الحديث) لرثائها المبكي الصادق، وكانت قصائدها في ابنتها من فضليات المرثيات في العصر الحديث، حيث إنه استولى عليها الحزن بعد وفاة ابنتها (توحيدة) وهي عروس ترفل في ربيع السنين ثماني عشرة سنة، فبكتها أمها الولهى وتركت الشعر والعروض والعلوم، وجعلت ديدنها الرثاء والنوح مدة سبع سنين حتى أصيبت برمد العيون، فمخضها لواحيها النصح في الكف عن البكاء، فاستجابت لهم وكفت شيئاً فشيئاً عن البكاء، وعكفت على قراءة القرآن ودراسته، فرد الله عليها بصرها بعد سنين عدة، فكانت لها في ذلك قصيدة جميلة وهي، (سفينة العين قد فازت من الغرق)، وما كان من ابنها إلا أن استأذنها في نشر أشعارها فأذنت له، فجمع ما تبقى من شهرياً، وذلك لأنه بعد فاجعتها على ابنتها أحرقت أشعارها كلها ولم يبق منها إلا القليل، فجمع شعرها في ديوان عزيز، كان له دوي ووقع عظيم، وسمته (حلية الطراز) وتقول لنا فيه:
بنتاه يا كبدي ولوعة مهجتي
قد زال صفو شأنه التكدير
والله لا أسلو التلاوة والدعا
ما غردت فوق الغصون طيور
ومما يفلق الحجر، ويصدع القلب من بكائها قولها:
إن الطبيب بطبه مغرور
بالبرء من كل السقام بشير
عجل ببرئي حيث أنت خبير
ثكلى يشير لها الجوى وتشير
تشكو السهاد وفي الجفون فتور
جاء الطبيب ضحى وبشر بالشفا
وصف التجرع وهو يزعم أنه
فتنفست للحزن قائلة له
وارحم شبابي إن والدتي غدت
وأرأف بها قد حرمت طيب الكرى
وقولها الآخر:
إن سال من غرب العيون بحور
فلكل عين حق مدرار الدما
ستر السنا وتحجبت شمس الضحى
ومضى الذي أهوى وجرعني الأسى
يا ليته لما نوى عهد النوى
ناهيك ما فعلت بماء حشاشتي
لو بث حزني في الورى لم يلتفت
طافت بشهر الصوم كاسات الردى
فالدهر باغ والزمان غدور
ولكل قلب لوعة وثبور
وتنقبت بعد الشريف بدور
وغدت بقلبي جذوة وسعير
وافي العيون من الظلام نذير
نار لها بين الضلوع زفير
لمصاب قيس والمصاب كثير
سحراً وأكواب الدموع تدور
وشعرها صادق مؤثّر مبك ، وهي تسير على خطى الخنساء الأولى تماضر السلمية، وذلك حين أحزنها فراق صخر فبكت ولسان حالها يقول:
تبكي خناس على صخر وحق لها
إذا رابها الدهر إن الدهر ضرار
تبكي خناس فما تنفك ما عمرت
لها عليه رنين وهي مفتار
هذا وقد فاقت عائشة التيمورية أدباء عصرها في فن الرثاء، ولم يفقها من شعراء عصرها إلا البارودي والساعاتي، وأما سر تفوق خنساء العصر الحديث في فن الرثاء وما سواه كالمدح والغزل والفخر والوصف، فهو عائد إلى أمرين:
أولهما: أنها مجودة والمجودات في الشعر من النساء قلة، وليس هذا قصراً على اللغة العربية وحدها، بل يشمل اللغات أجمع.
ثانيهما: أنها نشأت في عصر كان النساء فيه يتسمن بالجهل وضيق الفكر، فمن العجائب فيه نشوء شاعرة مجودة.
وكما أبدعت في الرثاء تألقت في غيره، حيث قالت غزلاً منساباً جميلاً عفيفاً:
منثور حسنك في الحشا سطرته
ورقيم خطك طالما كررته
سطر العذار تلوته فوجدته
يومي لسفك دمي وقد سلمته
ولها في معارضة البوصيري وأمير الشعراء (أحمد شوقي)، حينما أرق الاثنين حب رسول الله صلى الله عليه وسلم فنسجا في ذلك شعراً أشماً مجيداً، فاقتفت أثرهما، وسارت على دربهما، فتقول في رسول الله صلى الله عليه وسلم:
أعن وميض سرى في حندس الظلم
مجدداً لي عهداً بالغرام مضى
دعا فؤادي من بعد السلو إلى
وهاجني لحبيب عشق منظره
يمحو سلوى عن محبته
رام الوشاة سلوى كما يمحو إساءته
كيف استنار الجلوي يا من تملكني
فياله معرضاً عني ومعترضاً
أم نسمة هاجت الأشواق من إضم
وشاقني نحو أحبابي بذي سلم
من كنت أعهد في قلبي من القدم
يمحو ويثبت ما يهواه من عدمي
حبي له فعذابي فيه كالنعم
ولم أف لهم عذلاً ولم أرم
وشاهد العشق في العشاق كالعلم
بين الفراغ وقلبي فهو متهمي
وكما قالت عائشة التيمورية شعراً، فكذلك قالت نثراً، فهي كاتبة بليغة ولها كتابات عدة منها المسجع والمرسل.
ثم إنها هي أول من دعا إلى تعليم المرأة، ولها في ذلك مقالات وأشعار، وكانت ترى أن الحجاب لا يمنع من العلم والثقافة والأدب، ولها شعر في هذا المعنى سارت بذكره الركبان، حيث ترنمت وتغنت وطربت بالحجاب فقالت:
وبعصمتي أسمو على أترابي
نقادة قد كملت آدابي
إلا بكوني زهرة الألباب
وطراز ثوبي واعتزاز رحابي
سدل الخمار بلمتي ونقابي
بيد العفاف أصون عز حجازي
وبفكرة وقادة وقريحة
ما ضرني من أدبي وحسن تعلمي
ما ساءني خدري وعقد عصابتي
ما عاقني خجلي عن العليا ولا
ونشرت عائشة في جريدة الآداب والمؤيد عدداً من المقالات التي كانت في جوهرها تعارض آراء قاسم أمين، وكانت أسبق منه في الدعوة إلى تحسين وضع المرأة والنهوض بها، كما مهدت السبيل في مجال المقالة الاجتماعية لباحثة البادية.
ومن إنشاء المترجمة ما قالته ونشرته في جريدة الآداب يوم السبت الموافق 9 جمادي الثانية سنة 1306 تحت عنوان « عصر المعارف»، حيث قالت فيه: (لا تصح العائلات إلا بتربية البنات. إني وإن كنت لست أصلاً لمجال المقال في هذا المضمار، ومعترفة بقصر اليد عن قبض زمان المنال لاعتكافي بخيمة الإزار، ولكني أرى من أطرافه أن مناهج التربية طرف الكنوز، وبحدود مسالك التأديب مفاتيح كل جوهر مكنوز).
وكانت التيمورية بركة من بركات الأدب، حيث أخرجت لنا رواداً في الأدب المسرحي ومن الرواية فلها أخ غير شقيق وهو الأديب الكبير أحمد تيمور الذي يصغرها بما يقرب من ثلاثين عاماً، والتي تولت أمر تربيته وتعليمه بعد وفاة أبيها، وكان طفلاً رضيعاً لم يعد عن العامين، كما أشرفت على تربية ابنيه محمد ومحمود تيمور. فأثرت النهضة الأدبية في مصر، برواد منقطعي النظير، كما أثرت المكتبة العربية بكنوز عدة وهي:
- نتائج الأحوال في الأقوال والأفعال.
ويحوي قصصاً لتهذيب النفوس، وتم طبعة سنة 1888م
- مرآة التأمل في الأمور.
رسالة باللغة العربية، تتضمن 16 صفحة من الأدب، حيث دعت فيه الرجال إلى الأخذ بحقهم من الزعامة والقوامة دون التفريط في رعاية المرأة وتكريمها، وتم طبعة قبل سنة 1893م
- حلية الطراز.
ديوان شعرها باللغة العربية، وتم طبعة في القاهرة.
- شكوفة أو (ديوان عصمت)
ديوان أشعارها باللغة التركية، وفيه بعض ما أحزنها، وأبكاها فصاغته شعراً صادقاً مبكياً في ابنتها توحيدة.
وبعد حياة حافلة بالنضال والكفاح أسلمت الروح لباربها بعد مرض أصابها في المخ عام 1898م، وكانت وفاتها وتشييع جثمانها، في 2 مايو 1902م
هذا وقد احتفى بها عدد من أديبات العصر، حيث كتبت الأديبة مي زيادة كتاباً عنها وعنوانه: (عائشة تيمور: شاعرة الطليعة) تناولت فيه شعرها بالدرس والتحليل، وتطرقت فيه إلى حياتها الشخصية ونشأتها، كما درست مسيرتها كسيدة ارستقراطية، ورمز من رموز النهضة الأدبية الحديثة.
كما وسمتها الأديبة الذائعة زينب بنت على العاملية بإطراء أنيق، واستهلال يشيق فقالت، شاعرة ناثرة، رضعت الأدب وهي في مهد الطفولة... لم تدع لولادة لم تدع الولادة، ولم تترك للأخيلية مجالاً، وقد أخنست الخنساء وأنستها صخراً). وأما الأدبية وردة اليازجي فقد قالت في تقريظها لديوان المترجم: (حيلة الطراز) كلاماً مسجوعاً جميلاً على عادة أدباء وأديبات ذلك العصر جاء فيه: ( إنني قد تشرفت باطلاعي على حلية طرازكم التي تحلى بها جيد العصر، وأخجلت بسبك معانيها خنساء صخر، ألا وهي الدرة اليتيمة التي لم تأت فحول الشعراء بأحسن منها، ........ ولقد تطفلت مع اعترافي بالعجز والتقصير بتقريظ لها فكنت كمن يشهد للشمس بالضياء، أو بالسمو للقبة الزرقاء).
وبعد:
تلكم هي عائشة عصمت إسماعيل تيمور:
بنور الحق ممشاها
لدين الله داعية
وما كلّت وما ملّت
ورب البيت شاكرة
وخنساء بأشعار
وبالأخلاق سامية
أسير بهدى قرآني
وبالإيمان صادقة
عائشة التيمورية خنساء النهضة الشعرية الحديثة، رمز عال من رموز الأدب، وبركة سامية من بركات الشعر، وشعلة وقادة مضيئة أضاءت الطريق لنساء عصرها فلله درها.
**__**__**__**__**__**__**__**
مادة الترجمة مستقاة من: تراجم أعلام النساء ص 275-76م
- معجم أعلام النساء ص 121
- أعلام النساء 3/163 - 179
- الدر المنثور في طبقات ربات الخدور ص 497-517
- في ذكرى» خنساء العصر - عائشة التيمورية فاطمة عمارة - الأهرام - الأحد 2 مايو - آيار 2021م
- عائشة التيمورية خنساء العصر.
آدم - ارتس - مصطفي أحمد 20 جمادي الأولى 1443هـ.
- عائشة التيمورية خنساء العصر الحديث وذكرى رحيلها.
وجدي نعمان – الكنانة نيوز 20 رمضان 1442هـ.
- خنساء العصر 120 عاماً على رحيل الأديبة والشاعرة عائشة التيمورية محمد عبدالرحمن - اليوم السابع 2 مايو 2022م
** **
- بنت الأعشي-