د.عبد العزيز سليمان العبودي
يتعرض البعض إلى صدمة ثقافية عند الانتقال إلى دولة أجنبية والبقاء فيها لفترة من الزمن، سواءً للعمل أو الدراسة أو غير ذلك، وقد أشبعت هذه الظاهرة بحثاً ودراسة. كذلك العودة إلى أرض الوطن بعد الاغتراب، يمكنها أن تسبب صدمة ثقافية عكسية. حيث إن الظروف والأحداث الصعبة للتكيف مع ثقافة أجنبية، هي نفسها التي تصنع المعاناة مرة أخرى في رحلة العودة. وكما هو الحال مع الصدمة الثقافية الأولى، فإن الصدمة الثقافية العكسية هي شخصية ذاتية، وبالتالي فلكل شخص تجربته الخاصة في إعادة التكيف مع ثقافة بلده.
تشير الأبحاث إلى وجود بعض الأنماط الشائعة في تجارب الكثير ممن عادوا إلى بلدانهم بعد رحلة الاغتراب. ففي الرحلة الأولى، نتعرف على الأماكن التي سنعيش فيها بشكل تدريجي. فنعرف الشوارع والمنافذ والاتجاهات. وكذلك أنواع الطعام المتوافر. وبعد وقت من الاندماج نعتاد على مهام يومية (روتين)، ننفذ من خلاله العديد من الإجراءات، بدون التفكير فيها. ونتعرف كذلك على أنماط وكيفية التواصل مع الآخرين. حتى يصل الاندماج مع الوطن الجديد إلى معرفة النتوءات في الأسقف والشقوق على الجدران. وقد لا نولي اهتماما واعياً لكل هذه التفاصيل الصغيرة، مع اعتيادنا عليها. هذه العادات وأساليب التواصل مع الروتين، تعطي إشارات نعتمد عليها في توجيه سلوكنا. وبمرور الوقت، تصبح هذه الإشارات ذات طبيعة ثابته، حيث يمكن من خلالها توقع الأحداث وإدراك البيئة المحيطة بنا بسهولة. فثقافتنا تساعد على تحديد من نحن. فالتعرض ومواجهة ثقافة جديدة، تجعلنا نتأقلم على الممارسات المستجدة علينا، فنتعلم من الروائح والأصوات وكل ما يخص المكان الجديد، ونتعلم كيف نتفاعل مع أشخاص جدد. كل هذا يندمج في هويتنا الجديدة. فنعتاد على طريقة حياة مستحدثة تختلف عما اعتدنا عليه في الوطن، بدون إدراك أن هذه التغييرات، أو العادات الصغيرة، تحدد ما نألفه بعد ذلك. وبالتالي يصبح الروتين الجديد هو معيارنا، فنصنع هويات جديدة من خلال هذه الإجراءات والممارسات، ونندمج مع عادات بلدنا الجديد. وبالتالي فمفهوم الوطن، ينبني على أفكار الألفة والروتين والتواصل والهوية. فالوطن هو أكثر من مجرد المكان المادي الذي نعيش فيه، حيث يرتبط بالأشخاص والأفعال والمشاعر والعواطف والإشارات التي تجعلنا نحس بأننا في بيتنا الذي يحتوينا. يقول كريغ ستورتي Craig Storti »يمكن وصف جوهر الوطن في أربعة عناصر رئيسية وهي: الأماكن المألوفة، والأشخاص المألوفين والروتين، وأنماط التفاعل التي يمكن توقع حدوثها». وترتبط هذه العناصر بين مشاعر الأمن والتفاهم والثقة والسلامة والانتماء. وفي دراسة لعالم الاجتماع لسجارد Lysgaard للصدمة الثقافية حال الاغتراب، يفترض فيها أن التجربة المشتركة للصدمة الثقافية للمغتربين يمكن تمثيلها بيانيا عبر منحنى على شكل حرف U. فعند الوصول إلى البلد الأجنبي. تبدأ فترة ما يسميه شهر العسل، حيث تكون الثقافة الجديدة مثيرة وممتعة. وبعد أن تظهر الاختلافات وتتصاعد، يتملنزول إلى الأسفل باتجاه قاع الصدمة الثقافية. ثم يتكيف المرء مع الثقافة الجديدة تدريجيا ويتقبل الاختلافات، ويستعيد استقراره العاطفي والنفسي. هذه التجربة قد تستغرق بالنسبة للبعض عدة أسابيع، وقد تمتد لتصل إلى عدة شهور.
وفي الرحلة الثانية وهي العودة إلى أرض الوطن، قد يحدث فيها صدمة ثقافية عكسية، قام جولاهورن Gullahorn بتمثيلها عبر منحنى على شكل حرف W ليشمل الصدمة الثقافية الأولى والعكسية كامتداد لدراسة لسجارد. حيث يواجه العائدون لأرض الوطن الأم فترة شهر العسل الثانية عند الوصول، بحيث يبدو أن كل ما هو عظيم عن الوطن يزدهي ويتألق. فتكون الزيارات للأصدقاء القدامى، والعائلة ممتعة وجميلة، مع ما يصحبها من ملاحظة لبعض التغييرات. لكن فترة شهر العسل لا تدوم طويلا، لتبدأ الاختلافات الثقافية وضغوط العودة في التصاعد. وقد تكون التحديات أكثر حدة لمن لا يتوقع أن يواجه مشاكل بعد العودة إلى الوطن، مما يجعل الصعوبة أكبر حال سقوطه في قاع الصدمة الثقافية العكسية. وكما حدث في الصدمة الثقافية الأولى، سيتم التعامل مع الاختلافات الثقافية، وكذلك إدارة المهام اليومية بشكل مقبول للبدء في صعود منحدر إعادة التكيف لاستعادة الاستقرار النفسي مرة أخرى. وكما هو الحال مع الصدمة الثقافية الأولية، تختلف مدة هذه الظاهرة من شخص لآخر.
يساهم كل من تغير المهام اليومية وقلة الألفة مع المكان، في عكس الصدمة الثقافية لرحلة العودة للوطن. فالاستقرار فترة طويلة في الخارج، يزيد من خلالها الانفصال الثقافي مع الوطن. وبعد العودة، سيجد أن الوطن اختلف عما اعتاد عليه في الخارج، وقد يكون مختلفا حتى عنه عند المغادرة، ومختلفاً كذلك عما يتوقع أن يكون عليه. وهناك مجموعة من المتغيرات التي قد تسهل من ر حلة العودة أو تزيدها سوءاً. فعودة كبار السن الذين مروا بمجموعة من التحولات في الحياة قد يكون التأقلم عندهم أسهل. وكذلك في حال تكرار تجربة العودة. أما العودة الجبرية، وكذلك العودة الغير المتوقعة فإنها تزيد من التأثير السلبي. بالإضافة لذلك فكلما طالت مدة الإقامة، زادت فرصة التكيف، وبالتالي يزيد من صعوبة العودة إلى الوطن. وقد يتوقع بعض العائدون إلى أوطانهم أن يكون كما كان حال المغادرة. ولكن التغيرات والأحداث والتطورات المستجدة على نسيج المجتمع التي حدثت أثناء وجوده في الخارج، قد تكون صادمة له ومربكة. حيث قد يتفاجأ بنمو أو تقلص المدينة التي ترعرع فيها، أو بناء مركز تجاري جديد هنا، وهدم مدرسة هناك. وقد يكون هناك أعضاء جدد في العائلة الممتدة، لم يقابلهم أبدا. وربما يحدث تغيرات في العلاقات مع وبين الناس من زواج وطلاق ووفاة، وربما تطورت حياة الأصدقاء القدامى، فغيروا مجموعاتهم، فالعلاقات القوية السابقة لم تكن هي نفسها الآن. بالإضافة إلى ذلك، فقد لا يعود إلى نفس المدينة التي غادر منها.
الوطن هو أكبر بكثير من مجرد «المكان» الذي نعيش فيه. فهو يتضمن المشاعر والعلاقات والروتين وأنماط التفاعل التي يمكن عيشها. وهو يرتبط أيضا ارتباطا كبيرا بهوية الشخص. ومع تطور الفرد في الخارج وتبني الممارسات الثقافية في الدولة الأجنبية، يتغير التصور عن الوطن. فيمكن أن يكون العيش في الخارج تجربة تغير الحياة وتؤثر على المواقف والمشاعر والعلاقات مع الوطن الذي تركه منذ سنوات عديدة.