د. شاهر النهاري
كل خلاف عائلي صغير أو كبير، بين فرد وفرد، أو فرد ومجموعة، أو بين مجموعتين، يعتمد على عدة أمور لا بد من تحليلها منذ تكوينات الصفر، لبلوغ الحل الكامل، أو على الأقل الصلح الخارجي السطحي أمام الآخرين، أو تأكيد بلوغ اليقين بعودة مستحيلة بين المتنازعين.
ولكل طرف خلاف مميزات ونقاط نقص وهيئة وقدرات يجب النظر إليها لمحاولة توخي الشفافية والعدالة والتوازن، فليس لكل مظلوم لسان قادر على البيان والتوضيح، وليست الذاكرة القوية مصدقة، ولا التي تتصيد السواد مثل بيضاء لا تحسب الحساب مع الأهل، ولا تبلغ درجة الشك والتضخيم والنكران أو المن؟
وللخلاف طبيعته، فقد يكون مادياً، أو أخلاقياً أو معنوياً يعتمد على نقص الثقة، وقد يكون تخيلياً أو مدعماً بوقائع وشهود، أو مركباً بمناصرين ومستفيدين من وجود وتفاقم الخلاف.
والحالة النفسية لكل طرف في النزاع مهمة، ولا بد أن يتم سبر أغوارها، فهل كل منهما عقلاني، متزن، أم أن في تركيبتهما عصبياً ومنحازاً ومتغطرساً يسعى لإرغام وتحقير الطرف الثاني، وربما يكون ظالماً همه سلب حقوق أو تعطيل إمكانيات خصمه في كسب الصداقات والانفتاح على المجتمع، وتشويه الصفات، التي يتحلى بها من تعقل وقرب وكرم وشهامة، فيظل هدفه إثبات مادية الآخر ووقتية علاقاته وخياناته وبخله وظلمه.
هل المتنازع مسالم مع الآخرين بحيث تكون هذه مشكلته الوحيدة، أم أن الأغلبية لا يسلمون من لسانه ويده وظنونه، وهل هو معروف بأنه أواب يعتذر عن أخطائه، أم أنه آخر من يقر ويعترف، ويهب بشجاعة لإعطاء الحق لمستحقيه.
ثم، ما هو موقف كل طرف منهما حينما يحضر المصلحون للمناقشة، فيكون بشوشاً عطوفاً يمتلك الحرص على استمرار العلاقة، واستعداده لمد يده، والتنازل عن كبريائه، وذكر محاسن الطرف الآخر، وتجنب تشويه سمعته، أم أنه عنيد يرفض النقاش، ويغلق الأبواب، ويتمنى لو تطول المسافة والتباعد وأن تتحطم كل جسور العلاقات المشتركة المؤدية للقرب؟
أي محاولة للإصلاح لا بد أن تأتي بعد البحث في الحقوق المادية والمعنوية وإقرار الطرفين منفردين على وجودها، وتقريب وجهات النظر فيها ضرورة، وجعلها متوازنة قابلة للصلح، ودون جور أو ضغط على جهة لصالح الأخرى مهما كان الفارق بينهما في الوضع الاجتماعي وليس في السن أو الحالة المرضية.
أهمية الوصول إلى عمق الخلاف، فهل كان نفسياً شخصياً، أو أنه قرين مسببات خارجية ووشاية وتدخلات، أو حضور أشخاص قد لا يريد أحد الطرفين أن يكونوا شهوداً عليها، ويجب الفصل بين الحقائق الجلية للجميع، وبين ما يتخيله أحد الطرفين، فقد يكون حساساً للغاية، وقد يكون متقلب المزاج، وربما له عدة وجوه، وقد يكون الآخر خبيثاً يعرف كيف يحرج خصمه ويقهره أمام الآخرين، ولو بمزحة، أو بطيبة مترفعة خادعة، وهي تحمل عصارة التحدي والشرور.
هل هنالك مبالغات من أحد الطرفين، بأن يحوز حقوقاً معنوية لا تثبت، ويطالب باعتذار علني عن وهم لا يتمثل إلا في رأسه، أو أنه يحاول إذلال كبير في العائلة، وتعمد الإنقاص من حقوقه بجره خاضعاً للاعتذار؟
المصلح يجب أن يكون ذكياً ملماً بطرق التحايل، وأن يكون بعيداً عن محاولات الظهور على أكتاف أحد الطرفين أو كلاهما، ويجب أن يستخدم الدماثة والجدية والسرية، وأن يتواصل مع الطرفين بنفس الروح والوعي، وألا يعطي أحدهما وعوداً بالميل، ولا بالوقوف معه، فالقضية أشبه ما تكون بعمل القاضي، النزيه، الذي يدرك أن نتيجتها ستصنع الفرق المستقبلي، وأنه لا يمكن حل الخلافات بالغشش والتقولب، ولا بخائنة الأعين، أو عدم الوضوح، وادعاء سرية لم تكن، ومد الطرق البديلة لبلوغ مرحلة الانقلاب على الطرف المسكين المحتاج لرفع معنويات، والوقوف أمامه لمنعه من أخذ حقه بالكامل.
معضلة الخلافات العائلية أنها تبدأ بخلل أو تجاوز صغير، ولكنها سرعان ما تتضخم، وتصبح مكباً للقاذورات، ممن يستغلونها للفرجة، واستخدام الوجوه المتقلبة المرائية بين هذا وذاك، وربما باحتوائها على أغراض العذال مستغلي الفرص، ليبنوا فيها صداقات سريعة مشبوهة، أو مبتزة، أو الاعتماد على طرب أذن أحد الطرفين أو كلاهما لسماع التطبيل، أو بالتردد بينهما بشكل يحقق الشحن القابل للانفجار، وخلق الأسباب العويصة لتأكيد التباعد.
النائحون على الدم المسفوح يظهرون هنا بمماسح دموعهم، وكل منهم يتلوى حرقة مقصودة عند طرف، وربما عند الطرفين على حدة، ويشتكي من ضرر طاله سابقاً من الآخر، ويقسم أنه كم كتم وتغاضى، ولم ينل إلا النكران والحقران والإبعاد.
الخلاف الصغير يتضخم، ويصبح قلعة مهجورة لها جدران حجرية وبوابات حديد، وجسور وتماسيح وحراس وأسلحة عتيقة ومدافع وعزلة أرواح، حتى لا يعود المصلحون يدركون مداخلها ومخارجها، وحتى لا يعود ممكناً الإقرار بأصل الخلاف، وتصور كيف وصل الغضب لعنان السماء بسحابات راعدة ممطرة بالصقيع والبَرد والخوف.
الخلاف العائلي إن حظي بطرفين عاقلين لهما قلوب نابضة، فسيهتمان بالقرب، ويذللان الطريق، ويتقدمان نحو بعضهما، أو يطلبا التدخل من طرف مصلح محترم متفق على خلوه من استغلال مواطن العلل.
وإن تعذر عليهما ذلك، وجب على كل منهما سرعة القبول بأي مبادرة خوفاً من تعمق الخلاف، حتى وإن لم يرضِهما بالكامل، منعاً لقفل الأبواب، وحتى لا تزيد الشروخ، ويكثر من يردمون الخراب، ويغذون التماسيح، تلتهم فرص الصلح بين حرائق قمائم وعجاج المشكلات الأسرية.
الخلافات العائلية موجودة في كل الأزمنة والأمكنة، والمهم ألا يهملها المصلحون، وألا يركِن لها ويستزيد منها الطرفان، لتأثيراتها الآنية والمستقبلية العظيمة، تطول أجيالهم القادمة، والتي لا شك ستلعنهم على ذلك الخلاف، الذي أنتج سد يأجوج ومأجوج بين إخوة في الدم يفترض فيهم دماثة ورجاحة عقول.