حامد أحمد الشريف
ثمّة ما يدعو إلى التأمّل في حكاية «عائشة» للروائيّة الكويتيّة المبدعة بثينة العيسى التي تضمّنتها روايتها الجميلة «عائشة تنزل إلى العالم السفلي»، مع أنّ القصّة في أصلها ليست بذاك الزخم الذي يواكب قيمة هذا العمل الروائي العظيم، والصيت الكبير الذي بلغه؛ فربّما أمكن لكاتبتها اختصارها ببضعة أسطرٍ، إذ تتحدّث عن أُمٍّ فقدت وليدها بإهمالٍ منها، وأصيبت بعقدة الذنب، فكانت ذكرى وفاته السنويّة وبالًا عليها، تعيدها في كلّ عام إلى تلك اللحظة التي فقدته فيها... وفي ذكراه الرابعة، عاشت الأيّام السبعة الأخيرة قبل هذا الموعد وكأنّها ستلحق به لا محالة، ما جعلها تعيش الموت بكلّ تجلّياته، بل تبحث في خباياه وأسراره، متمنّية أن يكون مصيرها كمصيره. كلّ ذلك كتبته لنا بأحرف كأنّها غمّستها في دمها وآهاتها وحسراتها المؤلمة.
ولكن، إذا توقّفنا عند فكرة عدد الأيّام التي تسبق إنزال العقوبة، نلاحظ أنّها ليست فكرة أصيلة، بل وردت في القصص القرآني في كثيرٍ من مواضع الإرجاء، وهي في العادة تسبق توقيع العقوبة بالأمم التي لم تستجب لدعوات الرسل، وهلكت دون كفرها، وأتت على مُدَد زمنيّة متفاوتة: ثلاثة أيّام مع قوم صالح، قال تعالى: ( فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ ) (هود: 65)؛ وغير محدّدة مع نبيّ الله نوح، قال تعالى: (وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ ) (هود: 38)؛ وليلة واحدة أو بضع سويعات مع لوط، قال تعالى: (قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَن يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ ) (هود: 81).
بالطبع لم تكن هذه المدد الزمنيّة التي تفصل عن وقوع أقدار الله معاشة بالطريقة التي عاشتها كاتبتنا التي أسمت نفسها عائشة، فهي لم تشكِّك كأولئك الأقوام في رسالة الرسل، أو تستهزئ مثلَهم بوعيدهم، وإنّما كانت تنتظر أن تحلّ بها كارثة معيّنة بعد انقضاء الزمن الذي حدّدته هي.
هذه الأيّام السبعة الأخيرة ورد ذكرها أيضًا في الأدب وفي وأعمالٍ إبداعيّة عديدة، كاعتمادها فكرة أساسيّة في الفيلم العالمي «حياة أو شيء من هذا القبيل» «Life or Something Like It» (بطولة الممثّلة العالميّة أنجلينا جولي)، الذي أُنتج في العام 2002م، وكان يتحدّث عن الأيّام السبعة الأخيرة من حياة البطلة، قبل موعد موتها الذي أخبرها به عرّاف التقته مصادفة على الطريق، وأعطاها دلائل صِدق نبوءته بأشياء ستحدث لها تسبق وفاتها المنتظَرة. كذلك حضرت فكرة الأيّام السبعة في فيلم الرعب»الهوليوديّ» الرائع «حلقات» «Rings» الذي أُنتج في العام 2017م، وهو يتحدّث عن «شريط فيديو» يموت كلّ من يشاهده بعد سبعة أيّام، عن طريق قوى خفيّة سكنته.
المعنى هنا أنّ جماليّة الرواية ليست في حكايتها البسيطة، وإنّما في أمور أخرى ساهمت في خلق روائيّة تُحسن الإمساك بقلمها، وتجيد توظيفه لرسم خلجاتها بطريقة إبداعيّة أوصلت العمل إلى الطبعة الرابعة عشرة.
لن أُبحر في ثنايا رواية عائشة، إذ ليس غيرُ المطالعة سبيلًا للارتواء من فيض جمالها، وإنّما سأقتصر على جزئيّة بسيطة استوقفتني كثيرًا، وهي التي دعتني لأسطر هذه القراءة، أعني بذلك، الصدق المتناهي في رسم شخصيّة الأمّ المكلومة، والتجاذبات النفسيّة التي مرّت بها، حتّى لتظنّ جازمًا أنّ الكاتبة عاشت هذه القصّة، ولا سبيل لنكرانها. وهو الأمر الذي حدث معي بالفعل، عندما سألت الروائي المحبوب حجي جابر في أحد حواراتنا، إن كانت الأستاذة بثينة عانت من فقد أحد أطفالها, وقتها ضحك، وذكر لي أنّني، في ما يبدو، قد قرأت رواية «عائشة تنزل للعالم السفلي». وعندما أومأت برأسي موافقًا، أخبرني باسمًا أنّ ذلك سرّ إبداع روايتها، مع أنّها قصّة خياليّة لا تمتّ إلى حياتها بصلة، وإنّما أجادت في نظمها بالطريقة التي جعلت البعض يصدّقها، فيبكي لبكائها ويتألّم لألمها.
خلاصة القول، إنّ الأعمال الروائيّة الخالدة هي التي باستطاعتها ترك بصمة في المتلقّي لا تُمحى بسهولة، بل ربّما تعلق بذاكرته، وليس سوى الصدق ضمانة لها؛ وهو الأمر الذي كان من هذه التحفة الفنّيّة، حتّى استحال التفريق بين بثينة الروائيّة وبطلتها عائشة التي أشغلت الجميع من حولها بشخصيّتها الرائعة، وهي تعيش الموت في كلّ دقيقة من دقائق الأيّام السبعة، وتستحضر كلّ ما قاله في الموت فلاسفة عظام، إذ أبدعوا في وصفه في كتبهم.
عرفَت كيف تنقل لنا الحيرة التي عاشتها بين رغبتها الملحّة في اللحاق بابنها، وإن بالانتحار، وتصادم ذلك مع منطلقاتها الإيمانيّة التي تمنعها عن اقتراف هذا الذنب، ومزجها كلّ ذلك بشخصيّة إنسانيّة لافتة؛ إذ تعاملت مع زوجها عدنان وأمّها وإخوتها بطريقة بدت في منتهى الروعة، فيها الكثير من جنون الأنثى المدلّلة التي تعلم أنّها محطّ أنظار الجميع، وتستحوذ على قلوبهم فتتلاعب بها، وهدوء الأمّ المفجوعة بفقد وليدها، والغائبة تمامًا عن محيطها، في ملحمة نفسيّة رائعة، حتّى لكأنّنا نراها بأمّ العين، ونعايشها.
ولعلّ في ذهابها باتّجاه التفاصيل الدقيقة، والإغراق في وصفها بأسلوب أدبيّ ماتع، ما زاد من روعة الرواية، وأضفى عليها لمسة الإتقان الحقيقيّ الذي تمتاز به الأعمال الخالدة وحدها، وقد لا نجده في كثير من الأعمال الروائيّة؛ الأمر الذي جعلني أتمنّى لو أن «أنجلينا جولي» وقفت على هذه الرواية قبل تجسيدها لدورها الذي أبدعت فيه ويمكن أن يصنّف ضمن أعمالها الخالدة، وسنبقى نتذكّره كلما استحضرنا «موت عائشة».