د.أحمد يحي القيسي
الأديب فنان بسجيته، يضاهي مبدعي الفنون البصرية بكلماته التي تتبادل الأدوار مع الفرشاة حيناً، ومع الكاميرا حيناً آخر.
وإذا كانت الأمثولة البصرية آسرة بألوانها وبتفاصيلها، فإن شعرية اللغة كفيلة بتحفيز مخيلة القارئ لرسم لوحات ذهنية بالغة الدهشة. متخذة من الوصف أداة لها، تؤثث به فضاءات النص، وتشكل مشاهده.
لكن الإبداع في التصوير اللغوي ينأى عن متناول أغلب من يقترفون الكتابة، ومكمن عقدته في كونه يتطلب إلى جانب القدرة على التخييل تمكنًّا بَيِّناً من التعبير اللغوي (الشعري)، ومرونة يسيطر بها على الحيز اللفظي للنص من حيث الإيجاز والتكثيف أو الإطناب، بحسب ما تقتضيه خصائص النص البنيوية. وقلة هم الذين يمسكون بزمام هذه المَلَكَة، ومنهم الأديب/ بكاي كطباش.
فإذا كان «الوصف عن طريق الرؤية» هو الملمح الأبرز تصويريًّا لدى معظم كتاب الهايكو، فإن بكاي يتخذ من «الوصف المشهدي» أداة ترافقه في تصوير كثير من مشاهده، يقول :
«مِثلَ أصَابعِي
مرتعشًا يزْحف شُعَاع الخَرِيف
عَلى لوحَة المفَاتِيح»
وثمة ملمح آخر تجدر الإشارة إليه، وهو ثيمة (الترقب) التي تجعل الوصف سبَّاقاً للحدث، وإن كانت تقنية «الاستباق» نادرة في الهايكو، كقوله:
«فِي حَافّة الصّنبُور
قَطرَة
سَتسقّط الآن».
والمتمعن في تشكيل فضاءات النصين السابقين ستجنح به تأملاته إلى ملمح ثالث مهم، يتجلى في إبطاء حركة المشاهد التي يصور كطباش تفاصيلها، ليعمق تأمل القارئ، فكم من الوقت يمكن أن تستغرقه قطرة كي تسقط من حافة الصنبور؟ وكم تبلغ المدة الزمنية التي ينتقل فيها الشعاع إلى لوحة المفاتيح؟
أما إبداعه في وصف مشاهد الترائي فيحير القارئ للوهلة الأولى، حيث تبدو الصورة أقرب ما تكون للمجاز، لكن المتمعن في خطوات تكوين المشهد تتجلى له مهارة بكاي في وصفه، يقول:
«في الدلو الفارغ
مدندناً يهيئ المطر
مجلساً للقمر»
حيث تناهى وقع قطرات المطر في الدلو إلى سمعه صوتَ دندنة، وتراءت له – استباقاً - صورة القمر المنعكسة على ماء الدلو المملوء من المطر.
وأخيراً، تأملوا هذه المختارات من نصوصه:
ضَبَاب الفَجر-
من اللانهاية
يخْرج قِطَار السّادسَة
****
أَمَامَ بَتلاَتِهَا الهَشّة
لاَ أَجْرُؤُ حَتّى عَلَى النُّطْقِ بِاسْمِهَا
زَهْرَةُ الْـ......
****
دَوخَة اللاّنهائِي ــ
فِي صالَة المرايَا أُطْفئ النّور
لِكي أرَانِي
****
يا لقلتي
أمام هذا الكثير
من ظلال الحديقة
****
لاَ أحَدٌ فِي الخَارِج
لأنّنِي
لَمْ أَفتَح النّافِذة