د.حسن مشهور
في حديث ضمني منذ قرابة ثلاثة أشهر مع أحد الأدباء في احتفالية ثقافية بعينها، قال لي الرجل بما معناه: بت أعتقد جازمًا بأن إرثنا الثقافي، وخاصة الشق الأدبي منه، لم يعد أحد يحفل بتناوله والعمل على تقديمه وفق رؤية ذاتية تتسم بالأصالة والتفرد، استمعت له واكتفيت بهز رأسي ولم أعلق، كعادتي في الإنصات وتقبل مختلف وجهات النظر.
ولكني بت الآن لا أتفق مع ماذهب إليه أديبنا سالف الذكر، وذلك عائد لأني قد تلقيت في الأسابيع الماضية، إهداءً من الأديب والمثقف الجميل علي بن محمد شاوش تمثل في نسخة جميلة ممهورة بتوقيعه من مُؤلَّفَه الأخير الذي أسماه «شواظ اللهب في النقد والأدب»، ولعلمي بأن أديبنا علي شاوش هو من مثقفي منطقة جازان الذين عرف عنهم اهتماماتهم الخاصة بالتراث الأدبي العربي، فقد حدثتني حينها نفسي بأن أجد من وقتي متسعًا لمطالعة هذا الكتاب الأدبي، وهكذا كان.
كان أول مالفت نظري في هذا المؤلف الأدبي هي العتبة النصية الأولى منه، والتي تمثلت في العنوان المشوق وأعني به «شواظ اللهب في النقد والأدب»، الذي اختاره أديبنا ليمثل اختزالا نوعيًا للمحتوى البنيوي للكتاب النقدي. إذ إن مفردة «شواظ» قد وردت في القرآن الكريم في عدة مواضع، من ذلك سورة الرحمن حين قال المولى جل وعلا:(يُرسَلُ عَلَيكُمَا شُوَاظ مِّن نَّاروَنُحَاس فَلَا تَنتَصِرَانِ)، وهو مافسره ابن جرير الطبري بالقول: يقول تعالى ذكره (يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا) أيها الثقلان يوم القيامة (شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ) ، وهو لهبها من حيث تشتعل وتؤجَّج بغير دخان كان فيه.
واستشهد أيضًا على تفسيره للآية يالقول: ومنه قول رُؤْبة بن العجَّاج:
إنَّ لَهُمْ مِنْ وَقْعِنا أقْياظا
ونارُ حَرْب تُسْعِرُ الشُّوَاظا
وهو مايوحي لنا بأن الأديب شاوش يطلق لفكره العنان ليجتاح النص الأدبي ويعمل على فتح مغاليقه دون أي إخلال أو ضعف، بل هو نقد موجه قائم على أسس منطقية تتسم بالتكثيف والتداعي الفكري. فنقده مجرد من التحيز، وعبارته أبعد ماتكون عن المجاملة وهو هنات يقع فيها بعض النقاد وأشبه ماتكون بالدخان الذي يصحب النار المتقدة، في حين إن نقد أديبنا علي شاوش هو نقد أدبي خاص أشبه مايكون بالشواظ من النار التي لايصحبها الدخان البتة.
وبتصفح مادون داخل هذا الكتاب النقدي، سنجد بأن الناقد قد صرف جزءًا منه للحديث عن الحب، ثم جعل نفسه كمن يرى فيما يرى النائم بأن هناك حديثا متخيلا قد ضمه مع أديبنا وأيقونتنا الشعرية الراحل غازي القصيبي، الذي يقول عن الحب:
يبعثرني الشوق حين تغيبين
فوق الجبال وتحت البحار
ويرسلني في هبوب الرياح
وفي عاصفات الغبار
ويزرعني في السحاب الثقال وراء المدار
حيث نجده أي علي شاوش وقد تناول القصيدة من زوايا نقدية أخرى تجاوز فيها البنية السطحية للنص ودلف منها مباشرة للبنية العميقة للنص. وهي محاولة نقدية ذكية منه إذ يستطيع أن يُقِّول النص مايراه ويعتقده، وفيها ذات الوقت يحقق للنص ديمومته حتى وإن مات الكاتب. وهنا وفي هذه الزاوية المفصلية من الفكر، يلتقي الناقد على شاوش مع الفيلسوف ورمز التفكيكية الفرنسي الراحل جاك دريدا،وينطلق الناقد لدائرة فكرية أخرى يتعاطى فيها لوجيكيًا مع قصيدة أخرى للقصيبي وهي التي يقول فيها:
عن القلب الذي مات
وحلّ محله حجر؟
عن الطهر الذي غاض
فلم يلمح له أثر؟
وقولي: كيف أعتذر؟
وهل تدرين ما الكلمات؟..
زيف كاذب أشر
به تتحجب الشهوات..
أو يستعبد البشر
... فقولي إنه القمر!.
ففي هذه القصيدة نجد الناقد وقد أعمل مبضع نقده في قضية تتسم بالديكتاليك في علاقة آدم بحواء، وتتناول ذلك الهجر غير المبرر الذي تلجأ فيه حواء إلى إنهاء كل مايتعلق بحبها لآدم بشكل غير مبرر، دافعها لذلك هو شأن خاص يصب في تحقيق مصلحتها الدنيوية، أوتحقيق منفعة ما بعيدة عن آدم. حتى إذ انتفى عنها كل ذلك وغادرها من تركت من تحب لأجله، عادت باكية للحب الأول لتعتذر إليه بما تراه يصلح الحال من الأعذار. إلا إن الناقد شاوش يتناول هذا النص من زاوية نقدية أخرى تتعالق مع علم السيكولوجيا، وترتبط بالتحولات الوجودية التي تطال الإنسان على امتداداته الحياتية.
الكتاب حفل كذلك بجملة من المواضيع النقدية الأخرى، منها مايتعلق بعميد الأدب العربي الراحل طه حسين، وأخرى تتناول الأديب مصطفى صادق الرافعي بالإضافة لتناول نقدي آخر قد طال الراحل عباس محمود العقاد ورائد الرواية السايكولوجية الحديثة الراحل إحسان عبدالقدوس.
المؤلف لكونه قد كان يمارس هوايته في الكتابة الصحفية الأدبية، وقد كتب في كبريات الصحف العربية، ومنها صحيفة الشرق الوسط وصحيفة الحياة التي كانتا تصدران في نسختيهما من لندن، لذا نجده وهو يضمن كتابه جملة من المقالات النقدية التي حملت طابعًا فكريًا مميزًا، واتسمت بالفرادة في تشكيلها وقولبتها، وتطرق فيها لمفصليات من تاريخنا الأدبي العربي.
الكتاب صدر عن دار تكوين للنشر والتوزيع، وهو مما يعد إضافة للمكتبة العربية، ويحس باعتباره نتاجا أدبيا مميزا للمؤلف.