أحمد بن عبدالرحمن السبيهين
مثل ما اتّفق الرياضيون على استقطاع وقت قصير بين أشواط اللعب، لالتقاط الأنفاس وتجديد النشاط؛ اصطلح الصحفيون والأدباء على تسميَة هذا الوقت (باستراحة المحارب). وإن كان (نزار قبّاني) قد اعترض على ذلك قائلاً:
في الشِّعر..
لا يوجد شيءٌ اسمه استراحة المُحارب
فإمّا أن تكون مُتورّطاً
حتى آخر نقطةٍ من دمك
وإمّا أن تخرج من اللعبة.
ونحن بحمد الله لسنا من الشُّعراء...!
والمقصود (بالنافذة) التي وردتْ في العنوان، هي اسم هذه الزاوية التي ربّما سعدتْ بمصافحة أنظاركم يوماً، ولعل هذه الاستراحة تكون مساحة ظليلة خضراء نتوقّف فيها عن الركض هذا الأسبوع لمشاركتكم في معرفة ظروف نشأة (النافذة)، لما أحسب فيها من الطرافة.
وأصل الحكاية، كما كان يقول الأستاذ (محمود السعدني) حين يريد أن يبدأ إحدى حكاياته في سلسلة (الولد الشقي)؛ أن مُحدّثكم كان في إحدى السنوات في (القاهرة)، منتدَباً من جهة عمله لحضور دورة تدريبية مُدّتها أسبوعان في (الجامعة الأمريكية).
وكان الحضور مجموعة كبيرة من الموظّفين الذين امتلأت بهم إحدى القاعات، وكان أغلبهم من المصريين العاملين في (بنك مصر) وشركة (مصر للطيران) وغيرهما من الجهات.
وبعد نهاية الأسبوع الأول، توجّه إلى الجامعة ليجد مفاجأة مؤسفة تنتظره، فقد كانت القاعة قاعاً صفصفا خالياً تماماً من المشاركين، ما عدا البروفسور الذي قام من مقعده مُرحّباً ومُعلّلاً ما حصل: «بأن المادّة التدريبية استُكملت، وأن الحضور عادوا إلى مكاتبهم وقواعدهم سالمين، وهي فرصة (لحضرتك) للاستمتاع بقضاء أسبوع تتفسّح فيه في ربوع (أُمّ الدُّنيا)..»!
حاول استيعاب الموقف بسرعة وأدرك ما حصل، لقد كان هو وجِهة عمله ضحيّة لعملية (فهلوَة). والفهلوة: «طبعٌ إنساني يتلبّس بعضهم حين يظنّون أنهم أذكى ممن حولهم».. الفهلوة التي قال عنها الدكتور (أحمد زويل) مرّة: «إن مصر سوف تُبنى على العِلم والمعرفة، وبعيداً عن الفهلوة».
عفا الله عمّا سلف، فقد كانت سرقة لا ينبغي أن تمرّ مرور الكرام، فدورة تدريبية مُدّتها أسبوع واحد تُضاعَف تكاليفها من قِبل جهة أكاديمية عريقة، لا يمكن السكوت عنها، وهذا ما حصل في التقرير الذي تمّ تقديمه لاحقاً إلى جهة العمل، لضمان عدم تكرار ذلك مُستقبلاً.
ولكن هذه قصّة أخرى، فالشاهد أن صاحبنا في أحد الأيام المتبقيّة له قبل عودته للوطن، زار ضِمن ما زاره من المعالم الثقافية بعض مكتبات وسط (القاهرة) الشهيرة مثل (الأنجلو) و(مدبولي) و(الشروق)، ثم عرّج على أكشاك (سور الأزبكية)؛ وهو مكان عامر بباعة الكتب المُستعملة، وقد لفت انتباهه وهو يقلّب بعض المطبوعات المعروضة على الرصيف، عدد قديم من المجلّة الثقافية الامريكية (ريدرز دايجست)، وهي مجلّة شهرية كان يحرص على اقتنائها بانتظام منذ أن كان طالباً جامعياً يدرس الأدب الإنجليزي.
غمرته الفرحة وهو يرى نسخة نظيفة من المجلّة يعود تاريخ طباعتها إلى عشرات السنين الماضية، فسأل عن السعر، وهل هناك المزيد من الأعداد؟ لكنه قبل أن يستمع إلى الإجابة حاول أن يكبح جماح اندفاعه وأن يتظاهر بعدم الاهتمام، لئلا يقع مرّة أخرى ضحيّة (للفهلوة)، خاصّة حين رأى عينيّ البائع تبرق بالطمع، فالمؤمن لا يُلدغ من جحر مرّتين. ولكن حدوث مثل هذه الحالات النادرة بالطبع لا يُقلّل من حقيقة طيبة وأصالة وخفّة دمّ الإخوة المصريين.
فتمّ اقتناء مجموعة كبيرة من أعداد المجلّة يعود تاريخها إلى فترة الحرب العالمية الثانية، كانت كما تبدو توزّع على الجنود الإنجليز وقوّات الحُلفاء المُعسكرين في (مصر) أثناء الحرب، وهذا ما يتّضح من كتابة أسماء بعض أصحابها باللغة الإنجليزية على نُسخهم. وبعد قيام الثورة عام 1952 بادر الجنود بالتّخلص من أعداد المجلّة قبل مغادرتهم إلى أوطانهم، وهذا ما يُفسّر بقاءها في حالة ممتازة.
كنت سعيداً بالحصول على أعداد هذه المجلّة الثقافية العالمية العريقة التي احتفلتْ في العام الماضي بمرور قرن كامل على صدور العدد الأول منها في عام 1922، ولا زالت شابّة في كامل عنفوانها، إذ يزيد حجم توزيعها حالياً على العشرة ملايين نسخة عالمية، وتصدر في 21 لُغة، ليس منها لُغة الضّاد؛ إذ سبق أن أصدرتْ نسختها العربية تحت اسم (المُختار) في عام 1943 في (مصر) لفترة قصيرة، ثم في عام 1976 في (لبنان) والتي لا يزال الكثير من المثقّفين العرب يتذكّرونها، ولكنها توقّفت للأسف مرّة أخرى في عام 1993 بسبب ضعف التوزيع.
مكث هذا الكنز الثقافي الأثري طويلاً في ركن من أركان مكتبة صاحبنا المنزلية على أمل قراءتها في يوم من الأيام، ولكن بدا أن ذلك اليوم لن يأتي، إلى أن قيّض الله من يوقظه من هجعته الطويلة، فسُبحان من يُحيي العظام وهي رميم!
وكان ذلك حين بدأ صاحبنا يكتب المقالات في هذه الصحيفة الثقافية الغرّاء، التي تطلَّع قائد مسيرتها الدكتور محمد الفيصل، ونائبه الأستاذ علي القحطاني، ضمن خطط التطوير المُستمر، إلى عدم الاقتصار على شؤون الثقافة والآداب العربية وشجونها، بل إن من الطبيعي لصحيفة رائدة عريقة، فتح النوافذ على الثقافات العالمية المختلفة والنهل من معينها، والوقوف على آثارها الإنسانية الخالدة المتمثّلة في آداب المقالة والقصّة والشّعر والنقد.
وهذا ما تُساهم به هذه الزاوية في وقتها الحالي، على أن تنطلق لاحقاً بمشيئة الله في المشاركة مع جهود الزملاء الآخرين في مواكبة أحدث ما تنتجه العقول العالمية المُعاصرة من أفكار متميّزة وأعمال خالدة، والاحتفاء بما تحفل به كبرى المجلّات والدوريات الثقافية وآخر إصدارات الكُتب من موائد شهيّة، وعرضها بأشكال وأساليب ترقى إلى مستويات النُخبة المُثقّفة من قُرّاء الصحيفة الأوفياء.