د.محمد بن عبدالرحمن البشر
تم تتويج الملك شارلز الثالث ملكا على بريطانيا وعدد من الدول القابعة تحت التاج الملكي البريطاني، كما تم تتويج قرينته ملكة أيضاً، وهي التي ليست أماً لولي العهد، كما حضر أحفادها حفل يوم التتويج، وهو أيضاً حدث جديد في التاريخ البريطاني، ولم يكن هناك كسر لأي برتوكول عريق متوارث، وحضر الحفل البهيج عدد من ملوك ورؤساء الدول، كما جرت العادة.
الحفل تمت مشاهدته مباشرة صورة وصوتا وتعليقات عبر وسائل الإعلام، لهذا فلا إضافة بشرح ما تم في الحفل، لكن قد يكون من المناسب التوقف عند بعض القطع المستخدمة في الأثاث أو التاج، فتلك الصخرة التي تزن نحو مائة واثنين وخمسين كيلاً، هي ذاتها الصخرة التي جلس عليها ملك بريطاني قبل نحو سبعمائة عام، تمسكاً بالعراقة، وهي كما تقول الرواية أو إن شئت فقل الأسطورة، قطعة توسدها النبي يعقوب عليه السلام عند نومه، وهو ينتظر السلم التي ستنقله إلى الملائكة في السماء، وهي صخرة من أرض القدس العربية الاسلامية، والكنعانية تاريخاً وعراقة، وتقول الرواية: إن يعقوب عليه السلام قد نقل تلك الصخرة التي ينام عليها، من البادية إلى مصر، وفي الآية الكريمة في سورة يوسف قال تعالى: {وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ مِن بَعْدِ أَن نَّزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي، إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاءُ, إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ}، وقد استطاع الإسبان نقل تلك الصخرة من مصر، ووصلت في نهاية الأمر إلى اسكتلندا، لكن إنجلترا حازت عليها، ونقلتها إلى كنيسة وستمنستر بعد أن أصابها شرخ أثناء الاستيلاء عليها، وقد قامت الملكة اليزابيث بإعادتها إلى اسكتلندا، ويتم جلبها عند التتويج، ثم إعادتها إلى مكانها، وتقول الأسطورة أنها تنطق عندما يكون الجالس عليها ذو أصل ملكي صحيح، لكنها تظل صامتة إذا لم يكن كذلك.
زيت من أرض العراقة العربية يتم جلبه من القدس ليتم مسح الملك به للتبرك، وموضوع المسح بالزيت يعتبر أساسا في الطقوس الدينية اليهودية والمسيحية، وكان الإسبان عند تنصير المورسكيين يقومون بمسحهم بالزيت قبل تحويلهم الى المسيحية، وقد ذكر المسح بالزيت في الكتب اليهوديه عشرين مرة، وعدة مرات في العهد الجديد أي المسيحية، وذكر ذلك في انجيل مرقش، ولوقا ويوحنا الأول، وفي إحدى الآيات في النصرانية، ما نصه (مسحك الله إلهك بزيت الابتهاج)، والمسحة لا تقتصر على الزيت فقط، لكن يتم مزجه ببعض التوابل الموجودة في ذلك العصر، أي قبل منتصف الألف الأول من الميلاد وما بعد، ومنها القرفة والمر وغيرهما، ويمسح بها الانسان والمكان تبركاً وشفاء كما يعتقدون.
هناك أيضاً في عين التاج ياقوتة حمراء كبيرة تسمى بيض الحمامة، دلالة على كبرها، جميلة، أخاذة، بديعة، تشع كأنها كوكب دري عندما يسقط عليها ضوء مصباح، وكانت إحدى مقتنيات بني الأحمر حكام غرناطة بالأندلس، وشاء الله سبحانه أن يكتب لها البقاء، ولها قصة عجيبة، فقد حدث خلاف بين حاكم غرناطة أبي عبدالله محمد الغني بالله، وأخيه إسماعيل الثاني، حيث طمع إسماعيل في الحكم، فدبر مكيدة أسقط بها أخاه، فتوسط حاكم المغرب المريني، وطلب وفادة أبي عبدالله محمد الغني بالله إلى المغرب، برفقة أهله وحاشيته، وعلى رأسهم وزيره لسان الدين بن الخطيب العالم والمؤرخ والشاعر، والناثر، والطبيب، والفيلسوف، الذي أصبح صوفياً، لكن إسماعيل الثاني لم يستمتع بالحكم سوى سنة واحدة تقريباً، حيث سطا عليه ابن عمه وزوج شقيقته محمد السادس الملقب بالرئيس، وتلقبه المصادر الإسبانية بالبرميخو أي الأحمر لحمرة لحيته ووجهه، وقتل إسماعيل الثاني وتولى الحكم، بمساعدة بدرو الأول حاكم قشتالة الملقب بيدرو القاسي، لكن البرميخو كان سيئ التدبير، مدمنا على اقتراف المنكرات، ولقبه ابن الخطيب بأمير المدمنين، أو حرفوش، أي وضيع القدر، ومن سوء تدبيره نزاعه مع حاكم المغرب المريني، وتقربه إلى بدرو الرابع حاكم أرجون عدو بدرو القاسي، فاتفق الحاكم المريني، والقشتالي على التخلص منه، وإعادة محمد الغني بالله، وتم لهم ذلك، فما كان من محمد السادس البرميخو، إلا أن جمع مجوهرات القصر المتوارثة، ومنها تلك الياقوتة، وهرب بها إلى بدرو القاسي، الذي سلب أمواله ومجوهراته، ومنها تلك الياقوتة، بعد خمس سنين استنجد بدرو القاسي بحاكم انجلترا (ادوارد الأمير الأسود) فقدم إليه لكنه اشترط عليه تسليمه المجوهرات، ومنها تلك الياقوتة التي تنطبق أوصافها مع ما ذكره المؤرخون الإسبان، وابن الخطيب في كتابه الرائع نفاضة الجراب.
من الملاحظ أن هناك ارتباطا وثيقا بين مراسم التتويج والأثاث والمواد المستخدمة، وبين الشرق الأوسط، فهناك النبي يعقوب عليه السلام الذي عاش في البادية، وذهب إلى مصر الحضارة في ذلك الوقت بصخرته المزعومة، وكان ذلك في النصف الأول من الألف الثاني قبل الميلاد، كما تقول التوراة، وهناك ترانيم شرقية أيضاً، فلغة رسول الله عيسى عليه السلام، هي السريانية، وهي لغة من فروع اللغة الكنعانية، وموطنها الأصلي الشام، وما زالت هذه اللغة قائمة، ويتحدث بها السريانيون في سوريا وغيرها من منطقتنا العربية، والزيت من شجر نبت في أرض الإسلام والعرب القدس الشريف، وتلك الياقوتة المميزة كانت لعربي مسلم مشرقي الأصل خزرجي النسب، ذو ثقافة عربية إسلامية في جميع المجالات، من لغة، وموسيقى، وطعام وشراب.
لهذا فإن العالم يتنفس في مجده وعراقته بريح الشرق، التي تهب بثقافة العرب، وأجدادهم، وإن كان الدهر قد شاح عنهم بوجه، فإن الأيام دول، ولابد من يوم يعود فيه العرب إلى موقعهم الذي يستحقونه بين الدول، لينشروا السلام، والمحبة، والخير، والعدل، بين الناس، وأن يكون لهم مساهمة في تطور العالم المادي والفكري والأخلاقي، وهم أهل لذلك. إذا ما كانوا يداً واحدة، ومعولاً قوياً في البناء، بعيداً عن المنازعات والحروب، واستبدالها بالتسامح، والتعاون، والسعي إلى الاستقرار أولاً، فلا تنمية دون استقرار.