أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال أبو عبدالرحمن: كان الدكتور جميل صليبا في احتوائه المصطلحات على عَجَلٍ يُفَرِّق بين (الإبستمولوجيا) ونظرية العلم؛ وهذا اعتداء على ما لا يصح في معنى الكلمة الخواجية غيره، ودلالة معنى اللفظ من أيِّ لغة شرطٌ لصحة الاصطلاح.. كما أن تفريقه غير مؤثر؛ لأن المعرفة القبلية والبعدية مذاهب فلسفية بين العقليين ومَن بعدهم، وتحقيق المذاهب في (نظرية العلم) من صميم دراستها ونظريتها، وما حصل من تفريق عند بعض الفلاسفة الفرنسيين -ولا ينبغي إطلاق ذلك على جميعهم - إنما هو سلوك إرادي حُرٌّ من أجل المذهب، وليس تفريقاً بضرورة الفكر من الواقع.. وما لا يوجد لاصطلاح عليه اصطلاحاً يشمل كل معانيه فاقتراضُ اللفظ بلغتِه الأعجمية ضروري لغة وثقافةً وفكراً؛ فأنت لا تكاد تحصي معاني (الرومانسية)، ولها في كل سياق معناها المتفرِّع من عموم الاصطلاح بها؛ فلا بدَّ من رياضةِ اللسان العربي على النطق بها، ولا بد من إيداعها في متون اللغة العربية بكل معانيها؛ فإذا أردتَ التعبير عن معنى من معانيها فعبِّر عنه بلغتك، وضع بعد ذلك الرومانسية بين قوسين مُقَيَّدة بموضوعها كأن تقول: ((إبراهيم ناجي متقوقع ومنغمس في همومه الوجدانية مع ليلاه بألم الحرمان، ولذة اللقاء (رومانسية البكاء الوِجداني).. وبلزاك اتَّخذ مباهج الطبيعة صومعة يتفكر في آلاء الله، ويلتذُّ بالجامع المشترك بين لذائذ أنفاس الطبيعة وأنفاس ليلاه، وهكذا (وَرْدْ زَوِرث) ثَمِلَةٌ بتعانق الأشجار، وتغريد الطيور؛ لأن ذلك تجسيد لمشاعر العاشق الوامق (رومانسية الهروب إلى الطبيعة).. وذاك عَصَرَتْه المدينة بازدحامها وأدخنتها وفجاجةِ أخلاق الأجناس المتعدِّدة من السكان، ورتابة الوقت بالأعمال الرتيبة أيضاً؛ فكان أدبه حنيناً إلى حياة القرية، وبكاءً على شفافيتها وفطريَّتها (رومانسية الحنين إلى القرية والطفولة).. وأول مَن طرق هذا الباب في شعرنا الحديث السياب )).. ويظل (البكاء الوجداني، والحنين إلى اللذة الفطرية) من العناصر الجامعة في معاني الرومانسية.. وقال جلال الدين سعيد في معجم المصطلحات الفلسفية طبعة دار الجنوب للنشر بتونس عام 1994م ص13: « الإبستمولوجيا لفظ مركَّب من لفظين يونانيين هما: (إبستمي) أي المعرفة والعلم و(لوغوس).. أي النظرية والدراسة؛ فمعنى الإبستمولوجيا إذن نظرية العلوم وفلسفة العلوم، ويُعزَى إدخال هذا المصطلح إلى الفيلسوف الإسكتلندي ج.ف. فيريير (سنن الميتايزيقا 1854م)؛ إذْ قسَّم الفلسفة إلى مبحث الوجود (الأنطولوجيا) ومبحث المعرفة (الإبستمولوجيا).. وتُعْنى الإبستمولوجيا بدراسة مبادئ العلوم وفرضياتها ومناهجها ونتائجها دراسة نقدية ترمي إلى إبراز بُناها ومنطقها وقيمتها الموضوعية.. ومن أهم المفاهيم التي تمخَّضت عنها الإبستمولوجيا مفهوم القطيعة الإبستمولوجية، ومفهوم العائق الإبستمولوجي».. وانظر موسوعة الفلسفة والفلاسفة للدكتور عبد المنعم الحفني نشر مكتبة مدبولي/الطبعة الثانية عام 1999م /19-21.
قال أبوعبدالرحمن: هي إذن -بناء على المعنى اللغوي - نظرية العلم البَعْديَّة، ولكن الاصطلاح اتسع؛ فشمل عموم العلم، وهي بهذا المعنى فرع من فروع الفلسفة الحديثة.. وللأنطولوجيا والإبستمولوجيا قسيم ثالث هو الوجود المغيَّب حقيقَةً أو ادِّعاءً؛ ولضلال الفلسفة الحديثة أهملتْ البحثَ في المغيَّب، وأطلقت على قِسْميه (الميتافيزيقا ) بمعنى الخرافة، مع أن أهم شيء في الميتافيزيقا (الواقع - لا الخرافة - المغيب الثابت ببراهينَ من الوجود المشاهَد)؛ ولهذا جاء تضليلاً (القطيعة)، و(العائق) ؛ لأنهم تعمَّدوا تغييب البرهان.. والعلم الماديُّ يُقرُّ بواقع مغيب أصبح قليل منه فيما بعد مُشاهداً، وتعاملوا مع ما لم يشاهدوه بأوصافه المستنبطة من آثاره.
قال أبو عبد الرحمن: وخلاصة ما مضى أننا نترجم اللفظ لما في لغتنا تسميته، ونقترض اللفظ لما هو جديد في لغتنا، ونطلب الإيجاز باقتراض لفظ خواجي لا تتم ترجمة معانيه إلا بمفردات كثيرة، وتكون الترجمة مزامنة المصطلحَ المقتَرَضَ حتى تصبح معهوداً تراثياً راسخاً في الذهن مُبيَّنا في الكتب.. وبعكس ذلك المنهج الذي أحكم سياجه التحقيق والخُلقُ: منهج من يطرحون الاسم العربي ويأخذون الاسم الخواجي ومعنى الاسمين واحد؛ فهذا غربة عدائية، وتنكُّرٌ لأمرٍ كياني وهو اللغة، وهزيمة هزيلة تسلخ الُخصُوصيَّة .. وبعكس ذلك المنهج: منهج مَن يطرحون الاسم العربي ويأخذون الاسم الخواجي وليس معنى الاسمين واحداً في اللغتين، كما في إحصاء محمود أمين العالم أديب الماركسية العربية في كتابه (مواقف نقدية من التراث) دار قضايا فكرية عام 1997 - عن كتاب (التراث والتجديد) للدكتور حسن حنفي؛ فقد أحصى ثلاث طرق للتجديد، والواقع أن ما سيذكره مواضيع للتجديد، وليست طرقاً، وهي تجديد اللغة، وتجديد المعْنى، وتجديد الشيء أو الواقع.. فتجديد اللغة باستخدام الألفاظ المتداولة بدلاً من الألفاظ التقليدية؛ فنستخدم كلمة (أيديولوجية) بدلاً من كلمة (دين) وكلمة (قبلي) بدلاً من كلمة (شرعي)، وكلمة (الإنسان الكامل) بدلاً من كلمة (الله).. إلخ.
قال أبو عبد الرحمن: يا أَحِبَّائي من المثقفين الفضلاء انظروا كيف يَدِبُّ التضليلُ دبيب النُّعاس إلى العقول غير اليَقِظَة، ويأتي التضليل تحت شعار (التجديد)، وهو شعار حبيب إلى النفوس؛ لأنه مشروط مِعيارياً بأن يكون ذا قيمة كريمة؛ فجاء شعار التجديد بخيانة ونفاق؛ فالأيديولوجية الخواجية لها سِمة الأفكار الوضعية؛ فإحْلالُها محلَّ الدين يعني أن الدين وَضْعٌ بشري، والقبلي - وهو مذهب خاطئ عند العقليين -يعني كهانة الميتافيزيقا والدعوى المُسْبَقة بلا علم ؛ فلتحلَّ محلَّ الشرعي لتكون تجديداً !!.. والإنسان الكامل (أو السوبرمان) هو (الإنسان الكبير) في اللاهوت الصهيوني الوضعي.. يعنون أن الله جل جلاله (الإنسان الكبير) بمقابل أن الإنسان إله صغير؛ فجاء هذا التضليل بأشنع مما جاء به الكفر الصهيوني!!.. ويهمني ههنا مسألة تجديد اللغة بعد أن ألمحت إلى الافتراء على معانيها، ولا يهمني الآن بيانُ انتفاءِ التطابقِ بين ما سمَّاه متداوَلاً وتقليدياً؛ وإنما الغرض مداولةٌ مع الخطاب العربي الحداثي؛ وأصبر على تحمُّل هذا النفاق في الاستعارة الوثنية من أَعْدى أعداء الأمة الذين يصفون الإنسان بالإله الصغير، ويصفون الله سبحانه بالإنسان الكبير.. إن الخطاب الحداثي مُغْرقٌ في التعبير بأيديولوجية وأخواتها لضرورة لغوية، ولغير ضرورة.. وأضرب المثال بكراسة بعنوان (من الاجتهاد إلى نقد العقل الإسلامي ) لمحمد أركون، وهو مغترب من عمق المغرب الإفريقي، ولعلها تسنح فرصة لمداخلة كهذه المداخلة، والمهم أن ما مضى تَعمُّدُ تضليل وشغب يرتفع فيه حسن النية، ويُحوج الطلائعَ المخلصة من أمتنا إلى أن تتعامل معه تعاملاً غير ليِّن مضموناً وأداء.. هذه هي معايير التجديد في اللغة؛ لتقوم بالأداء المباشر.. وتبقى دعوى التجديد في اللغة؛ لتقوم بالأداء الأسمى الذي هو الأداء الجمالي، وذلك يتعلق بالمفردة والكلام المركب (الأسلوب).. فأما المفردة فلا يُسوِّغ استبدالها بمرادف من لغة أجنبية دعْوى أنها أجمل؛ لأن المفردة لبنة كيانية مرتبطة بمدلول في تراثنا، بل نحافظ على لغتنا كما هي، ونختار اللفظ المرادف الأجمل من اللغة نفسها، وميزة اللغة في جمالها بكليتها لا بشواذ المفردات.. وأما الأسلوب فهو عمل عقلي لا نقلي -إذا سلم الكيان بقانون النحو، وسلمت الجزئياتُ مفردةً وصيغةً ورابطةً -، ومقوِّم الصحة عقلاً كل مقومات البلاغة من إبداع عربي فصيح، أو عامي، أو غيعربي؛ فالتراث الأدبي الجمالي العربي إرث عالمي إلى أن تقوم الساعة، وإلى لقاء قريب إن شاء الله، والله المستعان.
** **
كتبه لكم/ أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري - (محمد بن عمر بن عبدالرحمن العقيل) - عفا الله عَنِّي، وعنهم، وعن جميع إخواني المسلمين -