الثبات في العلاقة الإنسانيَّة هو ذاك التوازن الجميل والمنهج القويم، الذي يعيشه غالبًا من دخل مرحلة الراحة في عمر متقدّم، أو اختارها وعرفها وطبّقها من عمر مبكّر؛ ذلك أن أكثر الخسائر النفسيَّة والطاقات المُهدرة والقيل والقال تحدثُ بسبب الشدّ في العلاقة، أو توقُّع ردود الفعل دون مشاهدتها، فقط سوء الظن!!
تقول مدربة متميّزة في التنمية البشريَّة لا يحضرني اسمها الآن: لقد عشتُ أيامًا جميلة وثابتة في تكوين العلاقة الإنسانيّة وبنائها، والسبب أني أبعدتُ عن نفسي سوء الظن وكل الظنون أشتتها منذ بزوغها. آخذ بالظاهر فقط، أما باطن الإنسان ونيّته فله رب خلقه هو أعلم جلّ جلاله إذ لم يكلفني بنوايا الناس، ولهم ربهم حسبهم وحسيبهم ونعم الوكيل. كما أتوقّع أن لكل ردّة فعل مبررًا وسببًا، والناس ليسوا مضطرين إلى إخبارك بعذرهم وسبب تصرّفاتهم، وعلى أن أفعل ما بوسعي أو ما أنا مُكلّفة به ضمن مسؤوليتي. كما أنه ليس من حقّكَ سؤالهم عن خصوصياتهم ما لم يتحدثوا بها، واحذر أن يكون حواركَ مع الآخر أسئلة شخصية عن حياته وخاصّة أمره، فاترك له حدوده وشؤونه؛ فلذلك الصنيع أثر كبير في ثبات العلاقة الإنسانيّة واتزانها ورُقيّها بإذن الله.
وفي ذلك قاعدة وأُسس صافيّة في النظر إلى ماهيّة (العلاقة)، وهدي نبوي كريم؛ يجعلنا نضعه نُصب أعيننا في سائر علاقاتنا: سواء في المنزل، والدور، والعمل، والشارع، في أي مكان كان، ومع كل من تقابله حتى ولو عابرًا في الطريق في انتظار مراجعة مواعيد أو استلام طلبات، أو حتى تعاملك مع الآخرين في أثناء قيادة سيارتكَ وهم يقودون مركباتهم، أو من يعبرون بأي علاقة إنسانيَّة مع الآخر. أنت - بإذن الله- تصنعها وتصنع أثرًا في كل مكان. التبسُّم والسلام على من تعرف ومن لا تعرف، مدّ اليد اليمنى باتجاه الأمام؛ لتقديم الكبير مثلاً أو المارّ أمامك في السير...
وينبغي التيسير على الناس إذا كنتَ صاحب مهمة قياديَّة تتصل بحاجات الناس وسُبل عيشهم؛ كل ذلك وغيره، وفي كل مكان أنت هو؛ أنت ثابت في مشاعركَ، ومؤكد أن الإنسان طاقة بشرية تزيد وتنقص، تنتابه الضغوط، وله قدرة على التحمّل؛ لكن كل أمر مع الاستعانة بالله، ثم الهدوء، والأخذ بظاهر الأمور، وأن تعمل بما هو ضمن طاقتكَ ووفق إمكاناتكَ، وتترك للآخرين أدوارهم وشؤونهم؛ حتى لو كلفوكَ بما ليس هو من شأنكَ، فبإمكانكَ الاعتذار بلطف والمضي قُدمًا في طريقكَ، فلن يضرّكَ -بإذن الله - رأي الناس فيكَ؛ لأن من يرفعكَ اليوم قد يخفضكَ في الغد، فاعمل الصحيح وابتعد عما يؤذيكَ وليس في طاقتكَ أو في إمكانكَ، وخالق الناس بخلق حُسن كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس - رضي الله عنهما- يَا غُلامُ، إِنِّي أُعلِّمكَ كَلِمَاتٍ: «احْفَظِ اللَّهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ، إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَل اللَّه، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ، واعلَمْ: أَنَّ الأُمَّةَ لَو اجتَمعتْ عَلَى أَنْ ينْفعُوكَ بِشيْءٍ؛ لَمْ يَنْفعُوكَ إِلّا بِشَيْءٍ قَد كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ، وإِنِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوك بِشَيْءٍ؛ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بَشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّه عليْكَ، رُفِعَتِ الأقْلامُ، وجَفَّتِ الصُّحُفُ». (رواهُ التِّرمذيُّ). وفي العمل بهذا الهدي سلامة الصدر وسلامة القلوب من البغضاء وأجر ممتد لك لا ينقطع - بإذن الله -.
وقد تجاوز بعضهم في حدوده مع الآخر إن كان ظنًّا أو قولًا وتصرّفًا؛ فيخسر هذا، ويتكلّم في غيبة هذا، ويُسيء إلى آخر صدقًا أو كذبًا، ويسرق جهد آخر أو يظلمه متناسيًا أو ناسيًا أنه في طريق، ولكل طريق نهاية ووقفة حساب، فهذا أَنَس رضي الله عنه قالَ: «إِنَّكُمْ لَتَعْملُونَ أَعْمَالًا هِيَ أَدقُّ في أَعْيُنِكُمْ مِنَ الشَّعَرِ، كُنَّا نَعْدُّهَا عَلَى عَهْدِ رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْمُوِبقاتِ» (رواه البخاري). فهل من وقفة جادة حكيمة نراجع بها ذواتنا وعلاقاتنا، ونطوّر أنفسنا قبل أن تنتهي الفرصة لنبدأ.